حذار من خذلان المجتمع والدولة/ حسن خليفة
سبق التأكيد على أهمية التنويه والتثمين لما حدث ـ حتى الآن ـ ونعني التئام جمع كبير من الجزائريين في لقاء وطني كبير حاشد من خلفيات فكرية متعددة ورؤى مختلفة. ربما يكون ذلك حدث للمرّة الأولى على هذا النحو الأنيق البعيد عن الضغوط والتجيير والتخييط والبرمجة المسبقة، بل لقاء مفتوح لحوار صريح. نعم ..قد تكون شابته بعض النقائص كاستئثار “المسنين” بالحديث والكلام، وتصدّر السياسيين للمشهد، وخفوت أصوات من يمثّلون المجتمع المدني هيئات وجمعيات وشبابا وحراكيين ..لكن لا بأس بذلك، فلكل بداية نقائصها وسلبياتها، لذلك وجب التأكيد على “الصبر” كقيمة في غاية الأهمية في التأسيس لأي تغيير حقيقي ذي تأثير، وينبغي التصويب في المناسبات التالية لكل ذلك؛ فيأخذ الشباب حقّهم الكامل في التعبير الصريح عن رؤاهم وتصوراتهم، ويجب على الكبار الاستماع إليهم بصبر أيضا.
وإنما ما أريد التنبيه عليه هنا هو مآل هذا الحدث …وما ينبغي إدراكه بشأنه وما يجب بخصوصه من تقدير موقف، وما يجب العمل به على سبيل التقدم نحو الغايات المطلوبة؛ لأن الحوار ـ في النهاية ـ هو وسيلة وليس غاية في حد ذاته . فكيف ينبغي مقاربة الأمر من منظور البحث عن مخرج حقيقي؟ وكيف ينبغي استثمار الحدث بنية خالصة صادقة في التأسيس والإنشاء لنمط تدبير جديد بعيد عن العهد السابق؟ وكيف يمكن التخلّص من المعوقات والأفكار القاتلة والفاشلة؟ وكيف يمكن تأمين الحوار كأحد أفضل الصيغ للتعبير عن تحضّر مجتمعنا وحاجته إلى الانتقال والتغيير السليم المكين؟
تلك هي الأسئلة التي ينبغي طرحها بصدق وصراحة، وفي مقدمة تلك الأسئلة سؤال وجيه جدير بالطرح وهو: وماذا بعدُ؟
تكمن أهمية السؤال وما يتبعه من أسئلة في أنه مهما كانت قوّة وروعة الخطوة الأولى (اللقاء) فإنه لا يمكن الاكتفاء بالتنويه والتثمين وحتى المديح في حقّ الجزائريين الذين تجاوزوا الكثير من الإشكالات والإكراهات والاختلافات واتجهوا إلى اللقاء دون اشتراطات مسبقة، فمن حقّ كل محب ّ لوطنه أن يخاف ويخشى على المآلات إن لم تُضبط الأمور على أسس سليمة وصحيحة.
إن بعض ما نُشر في أعقاب ذلك اللقاء الوطني الكبير يدفع إلى هذا الاتجاه من الخوف والتوجّس، فقد ظهرت بعض”الخلافات” وبتنا نسمع تصريحا من هنا وتصريحا مضادا من هناك، وهناك كلام غير قليل عن “التوجّهات ” الإيديولوجية التي تفعل فعلها في مثل هذه المنتديات بإيثار أشخاص على آخرين، وتقديم أشخاص وتأخير آخرين، والأمر نفسه يصدق على “الأفكار” كما يصدق على الأشخاص. وبعض ما تم نشره على نطاق ضيق :إن ثمة “أجندات خفية” للبعض يعمل على توجيه الأمور من خلالها إلى أهداف محددة لتكون هي مصبّ الحوار. وبقطع النظر عن صحة ذلك أو عدمه فإن الواجب يقتضي التذكير ببعض المحددات في هذا السيّاق، لكل من يضطلع بأي مسؤولية في هذا الحوار، ومن تلك المحددات :
- إن هذا الحوار أو هذا اللقاء وما سيتبعه من لقاءات وحوارات إنما هو نتيجة من نتائج الحراك الوطني السلمي الشعبي الحضاري الكبير، ومن الواجب الأكيد الوفاء لهذا الحراك بالحفاظ على صدقية وسلامة ونقاء الحوار الذي هو ثمرة إجرائية من ثمرات الحراك بشموليته وسلميته وشموله لكل أرجاء الوطن وتعبيره عن أشواق الشعب، أو على الأقل الأغلبية الساحقة من أبناء وبنات الشعب الذين عانوا ـ على مدار عقود ـ من تهميش وتحقير وأوذوا في حياتهم وكرامتهم ومعاشهم ما يعلمه الجميع. فليس من حق أحد أن “يخون” هذه الأشواق المشروعة والمطالب الإنسانية الغالية، باسم الإيديولوجيا أو بأي اسم أو أي عنوان أو أي لافتة .
- المرجوّ أن يكون منهج الحوار هو الصيغة المناسبة لإبقاء المجتمع حيّا يقظا، ودفعه للانخراط الإيجابي في المشاركة الفعّالة في صناعة قراره بنفسه، ومن ثم ّ يتعمّم ويتسع هذا الحوار ليشمل كل من يقتدر على إبداء الرأي ولديه ما يقترحه مما يفيد، ولا ينبغي أن يكون الحوار بين النّخب فقط، مهما كانت قدرتها وتجربتها، بل ينبغي إشراك المجتمع بصيغ مختلفة في هذا الشأن العام الكبير، وليس بالضرورة في العاصمة وحدها .
- من المفيد جدا أن يتحوّل الحوار إلى حوارات مجتمعية مفتوحة واسعة ذات صلة بالمجتمع بمختلف مكوّناته وشرائحه، وينتقل هذا الحوار إلى الولايات والجهات، وتُهيّأ له الفضاءات والصيغ المناسبة الكفيلة باستيعاب الغالبية. ومقتضى الأمر عند ذلك أن يهبّ المثقفون وقادة الرأي في كل الاختصاصات، ويغادروا مقاعد المتفرجين والمتابعين إلى منصة المبادأة والمبادرة والتعبير وإبداء الرأي الصائب النافع .
- مما يجب تذكّره باستمرار: إن هذا الحوار تبعا لما سبق قوله هو “أمانة” من الأمانات الكبيرة الثقيلة يجب الحفاظ عليها بكل ما يجب، وليس لأي أحد الحقّ في العبث به أو “التخربيش” فيه، لغاية حزبية أو فكرية أو جهوية.
- إن الحوار هو مسار متدرج مأمون العواقب، يمكن أن تُصحح به أوضاع كثيرة كانت مقلوبة وهو وسيلة كاشفة لحقائق المجتمع والتيارات الفكرية الغالبة فيه. وهذا أمر تُبنى به الدوّل وتستعيد به المجتمعات عافيتها، وتعرفُ به طريقها نحو الحق والعدل والفضل والازدهار والتقدم.
- ثمة قدر من الصرامة التي يجب إنفاذها وتطبيقها في هذا المجال، ومنها أن يُبعد بشكل واضح كل من له صلة بتكريس الواقع البائس السابق وكان جزءا (فعليا وفاعلا) في العهد السابق؛ والأسباب كثيرة هنا، وأخطرها هو “بثّ” سمّ عدم الثقة في أذهان الجماهير وترسيخ القناعات بأن ما يجري هو مجرد مسرحيات يُراد بها إعادة تموقع النظام السابق. وعليه فإن الحكم بفشل الحوار عندئذ يكون تحصيل حاصل .
إن المسألة مسألة جد لا هزل معه، ومسألة فرصة تاريخية نادرة …وعند استحضار كل هذه المعطيات ينبغي استشعار المسؤولية الضخمة الكبرى معها، المسؤولية أمام الله تعالى أولا، ثم أمام المجتمع والوطن والتاريخ …
إن مما لا يجوز القبول به أبدا هو العبث وسوء التقدير والعمل دون رؤية ضابطة، ودون محددات، ودون معايير فإن في ذلك خذلانا للمجتمع وخيانة له وللدولة (الدولة وليس السلطة ).
نعم قد يقتضي الأمر صرامة في حدودها العليا كما أشرتُ قبل قليل؛ لأن الأمر جدّ يتصل بمستقبل الوطن كله..ومستقبل أجياله.
وأخيرا فإن الإحاطة بمجموع التحديات التي تقف كعوائق أمام هذه الفرصة التاريخية المتفرّدة لتصحيح الأوضاع المقلوبة، ومرافقة الحراك الشعبي والحراك الثقافي ـ الحواري لإيصاله إلى أهدافه النبيلة وتحقيق أشواق الجماهير لهو من أوجب الواجبات نتحمّل جميعا مسؤوليته الضخمة الكبيرة كل من موقعه ومسؤوليته.