رحل في صمت الكاتب الإسلامي السفير المجاهد الطاهر قايد : مرشد قادة التحرر في العالم الثالث، أمثال مالكوم إكس والتشي قيفارا/محمد مصطفى حابس
عموما مع كل بداية صيف وحرارة الطقس وموسم العطل ونهاية السنة الدراسية تعتني وسائل الإعلام بالجانب الترفيهي عموما، أما هذه السنة فالمشهد الجزائري متغير في هذه الصائفة، فهناك أخبار ترفيهية تغطي على أخبار مهمة، وهناك أحداث تجرف أحداثا أخرى، في تسارع مهول، لا يدري الإنسان على ماذا يعلق، وأين يتوقف؟؟ فأحداث الفريق الوطني لكرة القدم في كأس إفريقيا التي تدور رحاها هذه الأيام في أرض الكنانة غطت على مكاسب الحراك، بل جعلت الكرة تدحرج معها كل ما تعيشه الجزائر في الأشهر الأخيرة من حراك أو هبة أو ثورة شعبية كما يحلو لبعضهم تسميتها، ثورة ضد الفساد والمفسدين، فغطت هذا الأسبوع على حدث لا يقل أهمية عن الحراك، وهو رحيل المجاهد الديبلوماسي الجزائري الطاهر قايد، رحمه الله..
أما الطريقة التي نقل بها الخبر وتداولته الصحافة الجزائرية في أسطر معدودة على استحياء، فقد ذكرني بالطريقة التي عالجت ولازالت تعالج بها وكالة الأنباء الجزائرية، موت العديد من رموز الخير في الجزائر، فتنشر بضعة أسطر في زاوية إعلانات عامة لا يكاد يراها إلا من “يفلي” مثل بعض النبهاء، صفحات الجرائد كلمة كلمة وجملة جملة وسطرا سطرا،..
فهذا الذي وقع هذا الأسبوع، مفكر مجاهد يرحل في صمت دون اكتراث؟؟ وهو مجاهد الثورة والمدرس المعلم والكاتب المترجم والديبلوماسي النبه، نعم وافاه الأجل المحتوم يوم الثلاثاء 9 جويلية، عن عمر ناهز التسعين سنة، ويوارى التراب يوم الأربعاء بمقبرة بن عمر بالقبة في العاصمة الجزائرية، رحمه الله ..
أقول هذا الكلام وأنا لم التق به إلا مرات معدودات في بداية التسعينات، لكني مطلع على جل ما كتبه ولله الحمد .. إذ يعتبر المرحوم بالنسبة لأبناء جيلي، من أعمدة النضال الثوري منذ بداية الثورة المباركة، فهو من مؤسسي الاتحاد العام للعمال الجزائريين في سنة 1956 مع الكوكبة الأولى، منهم شقيقه مولود قايد، والشهيد عيسات إيدير، والشهيد عبان رمضان والرئيس بن يوسف بن خدة، وغيرهم كثير. انضم مبكرا إلى حزب الشعب الجزائري وحركة الانتصار للحريات الديمقراطية، والتحق بجبهة التحرير إبان الثورة المسلحة المباركة وسجن ست سنوات ولم يفرج عنه إلا بعد الاستقلال.
الطاهر قايد (1929-2019) أو المجاهد سي عبد المومن كما يسمى إبان الثورة، سجن من طرف المحتل الغاصب مدة ست سنوات كاملة حتى الاستقلال أي منذ ماي 1956، وهو الشقيق الأصغر للمؤرخ مولود قايد (1916-1980) وهو أيضا شقيق الشهيدة مليكة قايد (1933- 1959) المعروفة بنضالها الثوري وماتت حاملة للسلاح ضد المغتصب والتي سميت عليها بعد الاستقلال شوارع في مدن جزائرية وبعض المؤسسات التربوية.
المناضل الطاهر قايد أو (سي عبد المومن) نشأ في أسرة مسلمة أمازيغية محافظة من قرية “تيمنقاش” بدائرة قنزات بولاية سطيف في الشرق الجزائري وشب على مواجهة الظلم والكفاح من أجل الاستقلال. وبدأ تعليمه في الكتاتيب والمدارس الفرنسية- الإسلامية في كل من قسنطينة والعاصمة. عمل مدرسًا في بلدية تغنيف بولاية معسكر، ثم في العاصمة قبيل اعتقاله عام 1956. وفور الاستقلال عام 1962 عاد للتعليم والعمل النقابي مدة سنة واحدة، إذ أنتدب مدرسا للغة العربية، فشغل منصب أستاذ بثانوية حسيبة بن بوعلي بالجزائر العاصمة، وفي الوقت نفسه، كان يشغل منصب الأمين العام لاتحاد المعلمين، والسكرتير الوطني للاتحاد العام للعمال الجزائريين، مكلف بالتوجيه.
وفي عام 1963، اختار العمل الدبلوماسي أصبح سفيرا للجزائر في العديد من البلدان الإفريقية، كما شغل مناصب مدير الإعلام والثقافة بوزارة الإعلام والثقافة ومدير الشؤون القانونية والقنصلية بوزارة الخارجية. تقاعد عن العمل الديبلوماسي ولم يقعد عن التفكير والكتابة بل خاض غمار العمل السياسي في عهد التعددية عام 1989، وكان أحد الأعضاء المؤسسين لحركة حزب الأمة بقيادة الرئيس بن يوسف بن خدة وعضوية بعض أقرانه أمثال المرحوم عبد الرحمن كيوان والمرحوم زاهر إحدادن وحسين لحول وغيرهم، رحمهم الله جميعا.
ولما وقع الانقلاب المشئوم على اختيار الشعب في بداية التسعينات وجمد العمل السياسي والجمعوي وسجن من سجن وشرد من شرد وقتل من قتل ..حل حزب الأمة الذي كان هو أحد منظريه – كباقي الأحزاب الوسطية الوطنية -، فتفرغ للعمل الفكري وللكتابة والترجمة فألف ما يربو عن الثلاثين كتابا باللغتين العربية والفرنسية نشر بعضها في فرنسا وبعضها في الجزائر، كما نشر كما هائلا من المقالات ودراسات إسلامية في العديد من الصحف والمجلات المحلية والدولية باللغتين، كما كان الأستاذ الطاهر قايد متنقلا للمحاضرات في المؤسسات الثقافية والتربوية للتعريف بكتبه ومنتوجاته الفكرية، منها كتابه “معجم الإسلام المفصل” بالفرنسية، وكتاب “الدين والسياسة في الإسلام” وكتاب “التفكير في الفكرالإسلامي” وغيرها..
وتعتبر مؤلفات الطاهر قايد واحدة من أعمدة ثقافة الدين الوسط للدارسين في الغرب، إذ صنفه بعض الدارسين من ألمع الكتاب العرب مزدوجي اللغة في العالم الإسلامي، بأصالة بحوثه وجدتها، وعمق دراساتها. مما جعل أحد الكتاب بمناسبة ندوة تكريمية نظمها له ” المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر” بتاريخ 29 ماي 2011، وتحت عنوان :”بصمات رجل بارع”، كتب يقول عن المرحوم أن الطاهر قايد:”كاتب ومترجم وناشط في القضايا الوطنية، وأستاذ مدرّس محاضر، ونقابي مجاهد، و.. بل العديد من القبعات ترصع رأس هذا رجل؟؟ لا شك أن التواضع هو أحد أهم صفاته”. وقال آخر:” إن السفير المؤمن الورع الطاهر قايد، لم يكن يوما واحدا من أولئك الذين يركضون وراء الكراسي ومراتب الشرف. بل ظل طول مسيرته النضالية يفضل الظل على النور، وانزواء السرية على مجد الظهور، فعلا إنه من فئة الأبطال الشجعان الذين يفتخر بهم ليس فقط شعب الجزائر بل الشعوب التي ناضلت من أجل التحرر “، لم لا وقد كان سببا في توجيه وإرشاد زعماء من العالم الثالث بسياسته الوسطية الواقعية الحكيمة، وهو يقوم بمهمته كسفير بلده في الدول الإفريقية، وقد أرشد ونصح رجالات كثر أمثال الثوريين الأسطوريين كل من مالكولم إكس والتشي جيفارا.
إذ اعترف مالكولم إكس بعد لقاء بينهما سرا في السفارة الجزائرية بغانا، خلال مؤتمره الصحفي في نيويورك عام 1964، مشيدا بمُلهمه العظيم، مبديا إعجابه بنصيحة حكيمة أسداها له” سفير الجزائر الطاهر قايد في غانا، إذ قال ” هو الذي جعلني أغير رأيي في أبعاد الصراع الأمريكي بين بيض وسود” ناصحا إياه بتكوين حزب سياسي متشبعا بالمقومات الإسلامية، ينصف السود والبيض على حد سواء وليس على حساب العنصرية العرقية السائد في أمريكا لحد الساعة. ولما التقيا في ندوة دول العالم العربي في القاهرة، قال ملكوم إكس للسفير الطاهر قايد، معترفا بفضله:
« I’ve followed your advice (J’ai suivi votre conseil) ».
كما عمل من جهة أخرى بنصائح السفير الطاهر قايد، الملاكم الأسطورة محمد علي كلاي، الذي كان يتبختر ويزهو بقوله ” أنا الملك” ، فأرشده السفير الحكيم بعدم استعمال بعض هذه العبر، فانصاع له البطل وعمل بنصائحه.
نفس الشيء وقع للسفير الطاهر قايد مع الزعيم الأسطوري تشي غيفارا في أكرا (غانا). لما كان هذا الأخير في طريقه إلى الكونغو معتقدا أنه سيبدأ بسهولة الثورات في إفريقيا من ذلك البلد. نصحه المرحوم بقوله ” هذا العمل غير ممكن في السياق الحالي، لأن الشعور القبلي متفوق على الشعور الديني وحتى الوطني في العديد من الدول الافريقية الحديثة العهد بالاستقلال”. قائلا له “أعتقد أن الكثير من الأشياء قد تغيرت في أفريقيا، بعد خروج فرنسا”، بعد هذا اللقاء وبسنوات التقى الرجلان، فقال تشي-غيفارا للسفير الطاهر قايد، شاكرا إياه على النصائح الثمينة، أنت على حق، يا سعادة السفير:
« You are right ! = Vous avez raison ! ».
وهناك العديد من القصص التي تبين حنكة الرجل، سنعود لها في مقام آخر، بحول الله.
كما قام المفكر الطاهر قايد في مسيرة حياته بعديد الإنجازات، حيث كان وجها تلفزيونيا معروفا قدّم عشرات الأحاديث الدّينية المتلفزة بالعربية والفرنسية، كما كان يشارك باستمرار في مختلف المحاضرات والملتقيات والمؤتمرات الدّينية داخل الوطن وخارجه..
وبرحيل قلم كهذا وعقل كهذا، تكون المكتبة الاسلامية قد فقدت حقا عالما جليلا مزدوج اللغة، ومتعدد المواهب..
فسلام عليك يا سيدي، يا صاحب القلم الواعد ورحمة من الله عليك ..، سلام عليك في الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا… وسلام عليك في الأولين والآخرين، وسلام عليك في المؤمنين العاملين، وسلام عليك في الدعاة الربانيين، وسلام عليك إلى يوم الدين..
هنيئا لك ذخرك عند الله مما قدمت يداك من باقيات صالحات، وعزاء لك فيمن كنت تعلمهم وتواسيهم.. وإلى لقاء في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، و﴿ إنا لله و إنا إليه راجعون﴾ وصدق محيي الموتى القائل:﴿ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعلمون﴾.