اللجوء إلى الله والاعتماد عليه/بقلم الشيخ الدكتور يوسف جمعة سلامة
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ:( لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)(1).
هذا الحديث حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، في كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الكرب.
من المعلوم أن الحياة الدنيا دارُ ابتلاء واختبار، فمن سرَّه زمن ساءته أزمان، فالإنسان معرَّض للشدائد حيناً، والفرح والسرور حيناً آخر، وتلك هي سنة الحياة، كما في قوله تعالى:{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(2).
والإنسان الذي يعمر الإيمان قلبه، يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى دائماً في السراء والضراء، يشكره على نعمائه ويسأله العون وتفريج الكروب، لأن ثقته بالله عظيمة، فالليل مهما طال فلا بُدَّ من بزوغ الفجر، وأما غير المؤمن فيضعف أمام الشدائد، فقد ينتحر، أو ييأس، أو تنهار قواه، ويفقد الأمل، لأنه يفتقر إلى النزعة الإيمانية، وإلى اليقين بالله.
فقد ذكر الإمام ابن حجر – رحمه الله – في كتابه فتح الباري بشرح صحيح البخاري، في شرح الحديث السابق: (… وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ، قَالَ: كُنْتُ بِأَصْبَهَانَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ أَكْتُبُ الْحَدِيثَ، وَهُنَاكَ شَيْخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ مَدَارُ الْفُتْيَا، فَسُعِيَ بِهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ فَسُجِنَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي الْمَنَامِ، وَجِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ بِالتَّسْبِيحِ لا يَفْتُرُ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : قُلْ لأَبِي بَكْرِ بْنِ عَلِيٍّ: يَدْعُو بِدُعَاءِ الْكَرْبِ الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ حَتَّى يُفَرِّجَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: فَأَصْبَحْتُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَدَعَا بِهِ فَلَمْ يَكُنْ إِلا قَلِيلاً حَتَّى أُخْرِجَ )(3).
وعند دراستنا لسيرة رسولنا – صلى الله عليه وسلم – نجد أنها مليئة بالمواقف الإيمانية التي ترشدنا إلى وجوب استقبال الهمّ والحزن بنفس محتشدة وعزم قوي، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ، وَلا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي، إِلا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا، قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا“(4) .
دعوات تفريج الهمّ وفك الكرب
من الجدير بالذكر أن كتب السنة النبوية الشريفة قد اشتملت على أحاديث كثيرة تُسهم في تفريج الهمّ والغمّ والكرب والحزن، منها:
* عن أَنَسِ بْن مَالِكٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ“(5).
* وعن سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : (دَعْوَةُ ذِى النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين} فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ)(6).
* وعن أَبِى بَكْرَةَ -رضي الله عنه-أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو؛ فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ “(7).
* وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: ” لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ، وَرَبُّ الأَرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ“(8).
لذلك يجب علينا أن تكون ثقتنا بالله سبحانه وتعالى عظيمة، فهو على كل شيء قدير.
أذهَبَ الله هَمَّك
من المعلوم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يُرشد أصحابه إلى كلّ خير، كما كان يعلمهم ضرورة الاستعانة بالله سبحانه وتعالى في جميع الأمور، كما جاء في الحديث: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخدريِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَومٍ المَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ جَالِساً فِيهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ مَاليِ أَرَاكَ جَالِساً في المَسْجِدِ في غَيْرِ وَقْتِ صَلاةٍ؟ قَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْني وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: أَفَلا أُعُلِّمُكَ كَلاماً إِذَا قُلْتَهُ أَذْهَب اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ، وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ، فَقَالَ: بَلى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ)(9) قَالَ: فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَيْني.
وعند قراءتنا لهذه الكلمات النبوية التي علّمها رسولنا –صلى الله عليه وسلم- لأبي أُمامة –رضي الله عنه-، نجد أنها درسٌ عملي لنا جميعاً بضرورة العمل بها، وأن نكون على يقين بأن الله عز وجل لا يُخَيّب من قصده، ما دام الإنسان صادقاً مخلصاً طائعاً لربه سبحانه وتعالى، ورحم الله القائل:
يا صاحبَ الهمِّ إنََّ الهَمَّ مُنفـرِجٌ أَبْشِـــــر بخيــــرٍ فـــإنََّ الفارجَ اللهُ
إذا بُليتَ فثِقْ باللهِ وارضَ بـــهِ إنَّ الذي يكشفُ البلْوى هوَ اللهُ
اليأسُ يقطعُ أحيانــاً بصاحِبــــهِ لا تيأَسـَــــــنَّ فــإنَّ الفـــــارجَ اللهُ
اللهُ يُحْدِثُ بعْدَ العُسْرِ مَيْســــرةً لا تَجْزَعـَــنَّ فـــإنَّ الكافــــــيَ اللهُ
واللهِ ما لكَ غيرُ اللهِ من أحــــدٍ فحَسْبُــكَ اللهُ في كُـلٍّ لـــكَ اللهُ
عروة بن الزبير – رحمه الله –
عروة بن الزبير بن العوام -رحمه الله-، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة المنورة، وكان عالماً بالدين صالحاً كريماً، والده الزبير بن العوام – رضي الله عنه – حواريّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق- رضي الله عنهما- الملقبة بذات النطاقين، وقد ذكرت كتب السيرة أن ساق عروة بن الزبير-رحمه الله- قد بُترت، كما وتوفي أَحَدُ أولاده ، فلما أُدخل على أهله، بادرهم قائلاً: لا يَهُولَنَّكم ما تَروْن، فلقد وهبني الله عز وجل أربعة من البنين، ثم أخذ منهم واحداً وأبقى لي ثلاثة، فله الحمد، وأعطاني أربعة من الأطراف، ثم أخذَ منها واحداً وأبقى لي ثلاثة، فله الحمد، وأيمُ الله (أحلف بالله )، لئن أخذ الله مني قليلاً، فلقد أبقى لي كثيراً، ولئن ابتلاني مرَّةً ، فَلَطَالما عافاني مراتٍ.
لقد ضرب عروة بن الزبير بن العوام -رحمه الله- مثالاً للمؤمن الحقيقي الذي لم يُسيطر عليه الهمّ والغمّ والحزن، بل صبر واحتسب ورضي بقضاء الله وقدره، فاستحق بفضل الله الأجر العظيم يوم القيامة إن شاء الله، جزاء وفاقاً على صبره وإيمانه.
أخي القارئ: ما أظن عاقلاً يزهد في البشاشة، أو مؤمناً يجنح إلى التشاؤم واليأس، وربما غلبت الإنسانَ أعراضٌ قاهرة فسلبته طمأنينته ورضاه، وهنا يجب عليه أن يعتصم بالله كي ينقذه مما حلَّ به، فإن الاستسلام لتيار الكآبة بداية انهيار شامل في الإرادة، يطبع الأعمال كلها بالعجز والشلل، وتأمل يا أخي قدرة الله سبحانه وتعالى، نارٌ لم تحرق إبراهيم، وسكينٌ لم تقتل إسماعيل، وبحرٌ لم يُغرق موسى، وحوتٌ لم يأكل يونس – عليهم جميعاً صلوات الله وتسليماته-، {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(10)، فكن مع الله ولا تبالي.
اللهم وفقنا للصبر والطاعة، واصرف عنا اليأس والسخط، وارزقنا العافية
في الدين والدنيا والآخرة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.