التدريب على التعايش/ حسن خليفة
يمكن النظر إلى التئام أطراف الحوار الوطني الذي حدث يوم السبت الماضي (6 جويلية 2019) كحدث وطني كبير، في سياق التداعي للحوار الذي التقت فيه تيارات سياسية وفكرية وإيديولوجية متعددة الخلفيات متنوعة الرؤى، وتداولت في شأن وطني هامّ يتصل في مجمله بالبحث عن مخرج آمن من الأزمة القائمة التي هي في الأصل نتائج وثمرات مُرّة لحُكم مارس أبشع الأساليب لتصحير الحياة السياسية والفكرية الوطنية، على مدار عقدين ـ على الأقل.
لنكن صرحاء: من يذكر لقاء بهذا الحجم على مدار الـ 20 سنة الماضية، أتيحَ فيه لكثير من الأطراف أن تتحدث عن فكرتها وفلسفتها ورؤيتها بوضوح، ودون أي تشغيب أو تجريم؟.
من يذكر حدثا قريبا من هذا الحدث (منتدى الحوار) تناول فيه الملتقون وناقشوا قضية من أهم قضايا الوطن وهي تحديد ملامح الطريق إلى الشرعية؟.
ألم يكن الحديث عن الشرعية ممنوعا منا باتّا بكل الأشكال والأساليب؟.
ألم تكن السنوات الماضيات مجرّد تسيير للشأن العام بالتدليس والتعمية، وصناعة كرنفالات انتخابية، على كل المستويات (رئاسية ـ تشريعيةـ ولائية ـ بلدية)… الكلمة الأولى فيها للتزوير والكلمة الأخيرة فيها أيضا للتزوير، وما بينهما ما نعرفُه جميعا من أشكال العبث والرداءة في إدارة شؤون الأمة بقناع ديمقراطية الواجهة أو الاستبداد المقنّع. وقد انتهى الأمر إلى عزوف كلّي عن السياسة والشأن العام.
لذلك ـ أتصوّر ـ أن ما حدث هو أمر بالغ الأهمية في مسارنا التدريجي الإيجابي نحو تحرير المجتمع، وسيكون ـ بحول الله ـ منعطفا مهما، كما سيكون ملمحا فارقا في مسار الحياة العامة الوطنية التي اهتدت معظم رؤوسها أخيرا إلى “التلاقي” والتحاور بما يقتضيه ذلك من الاستماع لبعضنا البعض بشكل جيد، وطرح الأفكار والرؤى من غير خوف من تخوين أو اتهام بتآمر أو اصطفاف أيديولوجي ما.
إن الأمر يحتاج أولا إلى تثمين حقيقي؛ باعتبار أن هذا اللقاء خطوة كبرى على طريق التدريب على التعايش، وقبول الاختلاف، والاقتناع أن النقاش والحوار هو أمثل طريق للتعرّف على بعضنا على نحو دقيق وصائب، وأن بعض ذلك يقتضي حسنَ الاستماع (الجيد) إلى بعضنا، وعدم الاستئثار بالكلمة والرأي، كما يقتضي تعلّم حسن إدارة الكلام (الحوار) والمناقشة، والصبر والتحمّل والقدرة على الإنصات، وما إلى ذلك من المفردات والأدبيات التي غابت عن ساحتنا العامة على مدار سنوات طويلة.
وما أمسّ حاجتنا إلى الحوار وأدبيات وضوابط التحاور والتعايش، ونحن نتهيأ للخروج من مرحلة سوداء كالحة تكرّست فيها الكثير من الرذائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ مما حرصَ النظام البوتفليقي على “زراعته” بخبث في مجمل حياتنا، وها هي الكثير من مظاهره تتبدّى في سقوط رؤوس المسؤولين الكبار السابقين، وقد تكشّفت بعض “أهوال” مما اجترحوه في الاقتصاد، والتجارة، والخدمات، وسائر شؤون الحياة العامة؛ حتى إننا لنجد أنفسنا أمام مافيا حقيقية لم تترك شيئا نبيلا وجميلا إلا “حرقته”، ولم تترك شيئا سيئا بشعا من الغش والرشوة والاحتيال والنصب والتزوير إلا وأدخلته في نظام حياتنا.
إن الحاجة إلى تعلّم كيفيات وأساليب التعايش وقبول بعضنا هو أهم ما يمكن أن نجنيه من الحوار، خاصة في هذا الشأن الوطني الكبير ـ الخروج من المأزق السياسي الحالي ـ ومقتضى الأمر في تقديري أن ننظر إلى النصف المملوءة من الكأس وهو “التداعي” للحوار، والاقتناع به كأداة راقية للتواصل والتفاهم وطرح مختلف القضايا ذات الصلة بالأزمة الحالية، بقطع النظر عن تفاصيل هنا وهناك، ستتضح مع مرور الوقت.
قد يكون السياق مناسبا للتذكير(والذكرى تنفع المؤمنين) بأن محددات الحوار وموجباته تقتضي الالتزام بقواعد الحوار الأساسية وأصوله فيما سيكون من لقاءات في المستقبل، ومنها:
- الابتعاد عن التعصّب للفكرة والرأي والطرح؛ فذلك يسلم إلى الهوى .. والهوى يردي.
- إبداء التقدير والاحترام المتبادل بين المتحاورين والبعد عن كل ما من شأنه أن يعكر صفو النفوس.
- البعد عن التجريح والتحقير والإذاية، ومقتضى ذلك استخدام القاموس الودّي ـ إن صح التعبير ـ الذي يحمل المعاني الدقيقة الجميلة.
- اعتماد الحجة والبرهان للإقناع، وحمل الآخرين على استيعاب خطاب أي طرف مبني على المنطق والحجة القوية الدامغة الدالة على الاقتدار والتمكّن والاستيعاب الجيد للقضايا المطروحة.
- التواضع في القول والفعل فذلك يُكسب تقاربا أكبر بين القلوب، ويحفّز على القبول وإقرار كل طرف بما لدى الطرف الآخر.
- الإصغاء وحُسن الاستماع، وما أكبر الحاجة إلى ذلك في حياتنا كلها، وفي سياقات خاصة كهذا الحوار الوطني الكبير؛ فإنه لا يمكن التقدّم في الحوار إلا بأن يكون الاستماع هو همّ ُ كل متحدث ليعرف ما لدى الطرف الآخر بشكل جيد ودقيق .
- القدرة على التحمّل والصبر..فإن هذه المحافل تكون عادة غير منضبطة في احترام الوقت وضبط الكلمات، والتركيز على الأهم.. وهذا أيضا مجال مهم ّ للتدرّب والتدريب لمختلف الفعاليات حتى تحدد ضوابط الخطاب مضمونا وشكلا ووقتا وأداء.
- ولنتذكّر جميعا أن الحوار ليس هو الجدل، فالحوار فضيلة راقية لتحقيق الحد المقبول من التفاهم والتقارب لنرسوَّ على برّ “مشترك” تتشكل منه قاعدة الانطلاق نحو المستقبل. أما الجدل ففيه اللدد في الخصومة ورفع الأصوات وعدم قبول الرأي الآخر الخ ..مما يفضي إلى الاختلاف المهلك.
- وأخيرا وليس آخرا يجب التذكير بأهمية “النية” (القصد) فإنما الأعمال بالنيات؛ حيث يجب ـ وجوبا تاما ـ أن تكون النيّات صافية والقصد واضحا بيّنا في أن الغاية من الحوار إنما هي الوصول بسفينة الوطن إلى بر الأمان في كنَف الانسجام والوئام والوحدة والتقارب للإقلاع بعد ذلك في الاتجاه الصحيح وتحقيق أهداف الشهداء والمجاهدين من الأجداد والآباء الذين ضحوا بالغالي والنفيس من أجل هذا الوطن الغالي.