قيم الجوار: بين جاهلية تحرص على القيم، وأخرى تتحرّج من اللمم!/ محمد عبد النبي
بعض القيم التي تنزل بها شرائع السماء تلتقي مع قيمٍ يؤمن بها أهل الأرض، وقد يوغل أقوام في جحود قيم السماء، لكنّ ما مُنحوه من عقل قد يصل بهم إلى شاطئ يقيهم عاديات الزمن، ويحقق لهم حياة بها قدر من التوافق والتعايش، وينفي عنهم غير قليل من الفوضى والشقاء، وقد يدّعي أناس وصلا بمنهج السماء، ويرفعون به شعارا، ومع ذلك يَحيون بؤسا لا نظير له، ذلك أنهم ينأون بأنفسهم عن قيم العقلاء، بحجة أنهم على شيء من دين، وما ثمة إلا القشور، وما دنى من أدنى الشُّعب.
أخرج البخاري (3/98) عن عائشة رضي الله عنها قالت: “لم أعقل أبويّ قط إلا وهما يَدينان الدين، ولم يمرّ علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، بكرة وعشية، فلما ابتُلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قِبل الحبشة، حتى إذا بلغ بَرك الغماد (موضع في الطريق إلى اليمن في جنوب السعودية) لقيه ابن الدَّغِنة-وهو سيد القارة: قبيلة مشهورة-فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض، فأعبدَ ربي، قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج، فإنك تَكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلادك، فارتحل ابن الدغنة، فرجع مع أبي بكر، فطاف في أشراف كفار قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة، وآمنوا أبا بكر…”
ونفس العبارة التي قيلت لأبي بكر قالتها السيدة خديجة رضي الله عنها حين جاءها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خشي على نفسه مما لقيه من أول اتصال له من السماء:”…كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”. أخرجه البخاري(6/173) ومسلم(1/139).
الجاهلية الجهلاء التي وُصِف بها العربي قبل البعثة ارتبطت بأمرين كبيرين، أحدهما: الإشراك بالله، وثانيهما: وأد البنات، ويبدو أنهما غطيا-لقبحهما-على فضائل عُرف بها العربي، وثبت التعامل بها في المجتمع الجاهلي، ولأنه لا يمكن تصوّر خلوّ أمة من الأمم من بعض الفضائل، حتى وهي تعيش في أدنى الدركات، وهذان النصان اللذان يُثبتان هذه الأوصاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر يعنيان-فيما يعنيانه-أن العرب-أو بعضهم على الأقل-كان عندهم اعتبار لهذه الفضائل، وأنّ مَن تحقّق بها لا يمكن إلا أن يكون خيِّرا، فلا يُؤذى في الدنيا ولا يُخزى في الآخرة، وقد جاء الإسلام لإتمام هذه الفضائل وتزكيتها، من خلال نصوص كثيرة، ومن خلال السيرة النبوية ذاتها، ومن خلال دعامتي التوحيد والعدل، اللذين هما جماع الفضائل، وارتقت هذه المبادئ والمكارم بهذه الأمة إلى مدارج لم يكن يتصورها أحد، إلا أن الزمان دار دورته، وإذا بالمسلمين لا يتخلّفون فقط عن مبادئ الدين، ولا عن الأعراف التي انبثقت عنه، ولكنهم يتخلّفون عن مواطآت الجاهلية القديمة والحديثة، وليختصروا أمارات انتمائهم لمبادئ هذا الدين في طقوس عبادية، وفي هيئات ظاهرية لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا بأس أن يقيموا عليها معارك جدالية، ترفع عن الأتباع حرج التخلّي عن الفضائل والمكارم، وتنسب للخصوم انحرافا عن الجادة، يوشك أن يوردهم موارد هلاك، لا يملك مفاتيحها أحد إلا الله ! ولمن يشكك في هذا الكلام عليه أن ينظر في العقوبات التي باتت تُسنّ اليوم، لمن يعلن تعاطفه مع جاره الأقرب، في حصار يُضرب من عرب على عرب، لم يبلغه حصار قريش لمحمد وأتباعه ! ولا مانع أن يزداد المشهد قتامة فتُزكّى المقاطعة من على منابر الحَرَم، ليُضفى عليها البعد الشرعي، وليتسنّى لمن ابتُلي بعقلٍ ! في هذا الزمن الرديء أن يقابل بين جوار يَعقده المطعم بن عدي-الكافر- لمحمد صلى الله عليه وسلم، وآخر يعقده ابن الدغنة-الكافر أيضا- لأبي بكر رضي الله عنه- ويأبى أن يُخرج من كان مثله في التحلي بتلك الفضائل- وبين أعراب يجري اليوم بينهم-على المستوى الرسمي والشعبي- ما لا يمكن تصديقه لولا أنه حصل، ولْتعِش عروبة فُرِّط في الأرض والعرض والكرامة باسمها، وليعش أيضا إسلام يزُكّي التطبيع مع اليهود، ويهين الكرامة، ويشقّ الصفوف، وهو يستقتل من أجل إحياء سنّة، أو تشمير ثوب، أو تسوية صفِّ لإقامة الصلاة.