الطلاق باللفظ الصريح لا يحتاج إلى نية المطلق/ محمد مكركب
قالت السائلة: إن زوجها كان طلقها منذ خمسة عشر سنة وأرجعها، ثم طلقها بعد ثلاث سنين من ذلك التاريخ وأرجعها، ومنذ أسبوع طلقها للمرة الثالثة قال لها:{أنت طالق} وقال لها ذلك بحضور والده وأخيها، وعندما جاء والد الزوجة لأخذ ابنته على أساس أنها بانت منها بينونة كبرى. قال له: لم أكن أنو الطلاق، ومازالت زوجتي في عصمتي!!. تقول السائلة: هل الطلاق يحتاج إلى نية المطلق؟ وهل يعتد بقوله: ما نويت الطلاق؟ وهل يشترط الشهود في الطلاق والرجعة؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على رسول الله.
أولا: قال الله تعالى:{الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ}[البقرة: 229]، {فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}[البقرة:230] وبما أن هذا الرجل طلق زوجته ثلاث مرات فقد بانت منه بينونة كبرى ولا ترجع له إلا كما أمر الله تعالى وبين في كتابه {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} أي: حتى تنقضي عدتها بثلاثة قروء، وإن كانت لا تحيض ثلاثة أشهر. والطلاق باللفظ الصريح كسائر العقود، فالصيغ الشرعية المتفق على مدلولها لا تحتاج إلى نية قائلها. فقوله:(بأنه لم يكن في نيته الطلاق) لا يعتد به، فقد وقع الطلاق ولا ترجع إليه. والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.
ثانيا: أن هذا الزوج غفر الله له ولنا جميعا، لم يتعظ بخطئه في الطلقة الأولى والثانية، ومن المؤكد أن العلماء وعظوه، ونصحوه بأن التلفظ بالطلاق لا يقوله إلا عند الضرورة القصوى وبحضور الشهود، أو أمام الحكمين، أو في مجلس القضاء أمام القاضي، وفي هذه الأحوال: حتى يسمع من القاضي أو من الحكمين أو من رئيس مجلس الصلح تلاوة الآيات البينات، وحتى يؤذن له بإصدار قراره عن قناعة. قال الله تعالى:{الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[البقرة:229/230] بعد الاستماع لهذه الآيات يقال له: لك الآن أن تطلقها إن كانت طاهرا، فإن لم تكن طاهرا انتظرها حتى تطهر ثم إن بدا لك أن تطلقها فلك ذلك. والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.
ثالثا: قالت السائلة:(وهل يشترط الشهود في الطلاق والرجعة؟) قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً . فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ}[الطلاق:1/2] قال القرطبي رحمه الله:[فقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أمر بالاشهاد على الطلاق. وقيل: على الرجعة. والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. فإن راجع من غير اشهاد ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء. وقيل: المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعا. قال: وهذا الاشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة، كقوله تعالى:{وأشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}[البقرة: 282] وعند الشافعي واجب في الرجعة، مندوب إليه في الفرقة. وفائدة الاشهاد ألا يقع بينهما التجاحد، وألا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث. قال: والاشهاد عند أكثر العلماء على الرجعة ندب (أي غير واجب)(18/158).
قلت: والاشهاد على الزواج والطلاق والرجعة كله من المقتضيات، فهو واجب، للعلل التي ذكرها القرطبي، وقياس الزواج والطلاق والرجعة على أي بيع في قوله تعالى:{وأشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} قياس مع الفارق وهو غير كاف. والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.
رابعا: إن الإشهاد على الزواج والطلاق والرجعة والخلع والإيلاء وقاية من كثير من السلبيات، ورحمة بالأزواج لتقليل الطلاق، والخروج من المبهمات والظنون ومن قول القائلين بأعذار الغضب، والقلق، واجتناب مبهمات ألفاظ الكناية، ولتطمئن القلوب ويكون كل شيء على الوضوح والصراحة، ومن هذا الباب نقول: بوجوب الإشهاد على الطلاق. ثم أولا وقبل كل شيء وحتى إذا اعتبر العلماء قول الله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ} أنه من باب الاستحباب لا من باب الوجوب، يقال: أفلا نعمل بما يحبه الله وأمر به؟. وفي التحرير والتنوير، قال ابن عاشور رحمه الله:[وظاهر صيغة الأمر الدلالة على الوجوب فيتركب من هذين أن يكون الإشهاد على المراجعة وعلى بت الطلاق واجبا على الأزواج لأن الإشهاد يرفع أشكالا من النوازل وهو قول ابن عباس وأخذ به يحيى بن بكير من المالكية والشافعي في أحد قوليه، وابن حنبل في أحد قوليه وروي عن عمران بن حصين وطاووس وإبراهيم وأبي قلابة وعطاء. وقال الجمهور: الإشهاد المأمور به الإشهاد على المراجعة دون بت الطلاق. ثم قال: أما مقتضى صيغة الأمر في قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فقيل هو مستحب وهو قول أبي حنيفة والمشهور عن مالك فيما حكاه ابن القصار ولعل مستند هذا القول عدم جريان العمل بالتزامه بين المسلمين في عصر الصحابة وعصور أهل العلم](28/309) وفي تفسير الطبري:[عن ابن عباس، قال: إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها، أشهد رجلين كما قال الله {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} عند الطلاق وعند المراجعة، فإن راجعها فهي عنده على تطليقتين، (أي إذا كانت الطلقة الأولى) وإن لم يراجعها فإذا انقضت عدتها فقد بانت منه بواحدة، وهي أملك بنفسها، ثم تتزوّج من شاءت، هو أو غيره. (ثم ذكر رواية) عن السديّ، في قول الله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال: على الطلاق والرجعة](23/444). وعند أبي داود عن مطرف بن عبد الله، أن عمران بن حصين، سئل عن الرجل يطلق امرأته، ثم يقع بها، ولم يشهد على طلاقها، ولا على رجعتها، فقال:[طَلَّقْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ، وَرَاجَعْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ، أَشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا، وَعَلَى رَجْعَتِهَا، وَلَا تَعُدْ](أبو داود، كتاب الطلاق:2186. وابن ماجة:2025) والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.