في رحاب الشريعة

بيان الفرقان لخروج الأمة من نزاع الشنآن إلى أخوة الإيمان/ محمد مكركب

أيها الناس هذا تبيانٌ من بيان الفرقان إلى كل أهل الإيمان، للخروج من ظلمات الشنآن إلى نور المحبة والأخوة والحنان. فيا أمة القرآن عيب على من ينتسبون إلى خير أمة أخرجت للناس أن يظلوا في عداوة ونزاع وتفرق وصراع، سواء بين شعوب متغالبة، أو طوائف متضاربة، أو بين أبناء شعب واحد  بين معارض ومعترض. هل بلغ حال التخلف بنا إلى أن يستفحل البغض والحقد بيننا؟ ما لنا والحيرة تنهش كل ساعة جزءا كبيرا من  أمتنا؟ ما لنا والعداوة تهدم كل يوم ركنا من أركان مجتمعنا؟ ما لنا والأعداء ينالون كل يوم مكسبا جديدا مقابل ضعفنا؟  كيف غاب عنا بيان الآيات البينات حتى غفل بعضنا عن البداهة والبديهيات؟ ومن البداهة جمع العلماء للحوار العلمي العقلي والشورى العلمية. ومن هنا يبدأ الحل على هذه الأسس، كما كان يفعل الخلفاء والملوك الصالحون عبر التاريخ.

1 ـ الأساس الأول: الحوار العقلي الأدبي السياسي في ظلال التقوى:(التقوى العملية):

إن حل المشاكل والقضايا على مستوى الأسر والمجتمعات والدولة والحكم وسائر السياسات، في إصلاح ذات البين اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا يبدأ بإصلاح العلاقة مع الله تبارك وتعالى ومع النفس والتخلص من العقد المخفية والشبهات الملتوية، بين الأزواج أو الشركاء أو الأبناء والآباء، أو بين الحكام والمحكومين، بخصوص الكراسي والمآسي، أو المناصب والمصائب، ولا يكفي في إصلاح ذات البين وحل المشاكل السياسية والاجتماعية، لا يكفي  ذلك الاستعطاف والرجاء السطحيان، أو تبادل التهم والقدح والبهتان، والوعد بالمزايا للمستعطَفين، والتهديد بالعقاب للمخطئين، والانتقام من الظالمين، وغير ذلك من المساعي السياسية السطحية التي أَلِفها الناس في المبايعات والمعارضات، بطرق مصلحية دنيوية  تجعل المتخاصمين يخرجون من فتنة الغلاب إلى حل استيلاب أو انقلاب، عبر حلول ترقيعية.!!! إنما الإصلاح يبدأ بما بدأ الله به. {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ}[الأنفال:1] بدأ بقوله عز وجل:﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾.

الأساس الأول المعتمد في حل المشاكل الأسرية، والمجتمعية السياسية الكبرى هو:{التَّقْوَى} كيف ذلك؟ يقول الله تعالى:{إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً}(الأنفال:29) قال القرطبي في تفسير الآية:”فإذا اتقى العبد ربه، وذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه، وترك الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات، وشحن قلبه بالنية الخالصة، وجوارحه بالأعمال الصالحة، جعل له بين الحق والباطل فرقانا، ورزقه فيما يريد من الخير إمكانا”. قال ابن وهب: سألت مالكا عن قوله سبحانه وتعالى:{إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً} قَالَ: مَخْرَجًا، ثُمَّ قَرَأَ:{وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً}(7/396). ونقول هذا ونبلغ الأمة كلها بهذا حتى لا يقال في مستقبل الأجيال أين كنتم مما آل إليه حال ذلك المحال؟ فلماذا ترك الناس نهج القرآن ونور البيان ومعالم الحق في الفرقان وسقطوا في نزغ الشيطان؟ آه، نعم، إن سؤالكم هو: كيف نتقي الله تعالى لنكون في رحاب نور الله سبحانه، ونخرج من النزاع السياسي مهما كان؟ ورغم غرابة السؤال، فإننا نجيب الجاهل والغافل والمعاند والحيران، بإذن الدَّيَّان الْمَنَّان الذي أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. يقول الله تعالى:{وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ}(النحل:89). هل علمتم أيها الناس معنى قول الله تالى:{وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ}؟؟ لقَدْ بَيَّنَ لَنَا الحق المبين فِي هَذَا الكتاب المبين كُلَّ عِلْمٍ وَكُلَّ مفتاحِ قضيةٍ ومسألةٍ وموردِ خيرٍ لأمة الخير. بين لنا كُلَّ حَلَالٍ وكل حرام، ولتعلموا أنه ما غرقت بعض الشعوب في النزاع الفتان وصراع الشنآن إلا عندما خلطوا بين الحلال والحرام، إِنَّ الكتاب أيها الناس قد اشْتَمَلَ عَلَى كُلِّ عِلْمٍ نَافِع، وكل بيان جامعٍ رافع، وَفيه مَا النَّاسُ إِلَيْهِ مُحْتَاجُون في أَمْرِ دُنْيَاهُمْ وَدِينِهِمْ وحاضرهم ومستقبلهم. نعم، مازلتم تقولون: وأين؟ لا حول ولا قوة إلا بالله العليم الحكيم. أما قرأتم هذه الآية؟ {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(النحل:43). وتقول: كيف؟ إن الحل كل الحل موجود في الكتاب، فإذا لم تفقه مفاتيحه فاسأل العلماء العالمين بالكتاب يشرحون الأبواب ويبينون الأسباب.

عن أبي بكرة رضي الله عنه، قال: خطبنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فقال:[إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يومِ تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟]، قالوا: نعم، قال: [اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض](البخاري.1741) لا يعقل ثم لا يعقل أن يظل المسلمون ـ إن كانوا مسلمين حقا وصدقا وتطبيقا ـ لا يعقل أن يظلوا في حروب نفسية بين بعضهم فضلا عن الحروب العسكرية. ولا عذر للمتنازعين في ادعائهم غياب الحل، ثم لا عذر لهم في ادعائهم غياب أهل الحل [اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ] قال ابن عباس رضي الله عنهما:” فو الذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته، فليبلغ الشاهدُ الغائبَ، لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بع”(البخاري.1739).

2 ـ  الأساس الثاني: الحوار العقلي والشورى:(الشورى العلمية الاجتهادية):

جمع العلماء من كل التخصصات وفتح باب الاستشارة العلمية الحقيقية مع علماء الأمة المجتهدين في العلوم الشرعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، والاستماع لكلمة الحق. قال الله تعالى:{فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(آل عمران:159) فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يوحى إليه كان ينادي كبار الصحابة أولي الرأي والمشورة والخبرة ويقول:[أشِيرُوا عليَّ أيُّهَا النَّاسُ] ومشاورة أعيان القوم، وإشراك مفاتيح الأمة في القرارات والمخططات المصيرية هي لغايات ضرورية لا تتحقق إلا بها وهي ألزم للأمة من الماء والغذاء والدواء والكساء في كل الأحوال، فضلا عن حال يؤول فيه المآل إلى المحال!!  فمن غايات الشورى السياسية الحكيمة:

1 ـ اجتناب الأخطاء السياسية الأُحادية، والاطمئنان إلى الخطة الاستراتيجية لمواجهة الفتن والتحديات، ومواجهة الأعداء وحيلهم ومكرهم، والقصد هنا أولا: الوقاية والحذر، والتفطن لما يحاك واجتناب الخطر، فإن اجتماع مائة عقل خير من عقل واحد، فَلِمَ لا يفسحُ المجال واسعا وكافيا للعلماء المجتهدين المتخصصين، بل يكون الحوار مفتوحا لكل مواطن ملتزم بضوابط الحوار. والحذر من الاكتفاء بجهة دون أخرى، أو الاستماع إلى ثلة وتهميش أقطاب علمية من أولي الألباب، فتلك مبادرة بعيدة عن الصواب.

2 ـ مشاورة النقباء والعلماء والأقطاب المعروفين في المجتمع لطمأنة القلوب وتأليفها، واستئناس النفوس وتبصيرها، واتباع الآيات وأنوارها، ودحض الشبهات والدسائس ودفنها في أو كارها. والمطلوب اللقاء المستمر.

3 ـ  قد يكون في رأي واحد ممن يستشارون ما لم يوجد في رأي أعلم العلماء من البشر، وذلك من حكمة الإلهام الرباني، كرأي الحباب في غزوة بدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين تكون حرية الحوار العقلي الهادئ، والاستماع لبعضنا وفق أصول وآداب الحوار.

4 ـ الشورى من أهم مفاتيح التعاون والتكامل عندما تتم بين المتقين المتيقنين. قال الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} الشورى مبدأ دستوري عظيم في الإسلام، فهو يوجب أن يكون الحكْم مبنياً على التشاور بين الحكام والعلماء وأعيان الأمة. وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يشاور أصحابه الكرام في كثير من الأمور، وكان الصحابة الكرام يتشاورون فيما بينهم.قال الحسن البصري:”ما تشاور قوم إلا هُدوا لأرشدِ أمرهم” . وقال ابن العربي:”الشورى ألفة للجماعة، وصِقال للعقول، وسببٌ إلى الصواب، وما تشاور قوم قط إلا هدوا”.

والسؤال هنا أن هذه الشعوب المتخاصمة المتنازعة لماذا لا تعمل بهذا المبدأ الشرعي القرآني الذي دعا إليه رب العالمين العليم الحكيم؟ وإن دعوتنا لشعوبنا وللشعب الجزائري بالخصوص ندعوهم للخروج من كل الفتن والمشاكل والنزاعات والصراعات إلى التقوى العملية والشورى العلمية الشاملة الحكيمة، وأن أصحاب القرار من القوة المتحكمة في زمام السلطة السياسية في قرارات الأمة أن يعودوا إلى مبادئ الحلول الشرعية العلمية المنطقية التي ترضي رب العالمين تبارك وتعالى، وتحقق المصالح العامة والخاصة لهذه الشعوب، ومن ثم تخرج هذه الشعوب من حروب المصائب والأزمات إلى بر الأمان والبركات. فإذا قيل لنا يوما لقد مرت شعوبكم بمصائب وأحزان وفتن سياسية تجعل الحليم حيران فلماذا لم تبينوا للأمة طريق الحق والصواب وبيان الحلول الشرعية، حينها تنطق الحقيقة من قلب التاريخ الشاهد بالحق لأهل الحق، بأننا بَيَّناَ وقلنا ووضَّحْنا ما فيه كل مفاتيح الأبواب للخروج من نزاعات الغاب والخراب، والصخب والغلاب، إلى نور التصالح والتفاهم كما أخبر الله تعالى في الكتاب، إلا من سد سمعه عن كلمة الصواب، وأعرض عما قلناه واتبع هواه، وعلموا أنه إن استمر الرفض والصمم عن بيان الفرقان من القرآن، فسيستمر حال هذه الشعوب في الغيظ والألم والأحزان، وسيسأل المعرِضون عن حلول التقوى في تحكيم آيات الأحكام، والرافضون لحكم الشورى وسياسة الإسلام. وفي الأثر” ما خاب من استخار ولا ندم من استشار لا عال من اقتصد” نعم، إن أمر المؤمنين شورى بينهم، واعلم أن الاستشارة تكون بعد الاستخارة، والعزم يكون بعد الاستشارة، ولكن مجلس الشورى يجب أن يكون من العلماء المجتهدين في علوم الشرع والتخصصات العلمية الأخرى، وليس من أهل الهوى والانطباعات السطحية والتعصبات المذهبية. قال الله رب العالمين الذي فرض الشورى على الأمراء والعلماء من المسلمين لحل مشاكلهم فقال:{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً يُوحَي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(النحل:43) وأهل الذكر في زمننا هذا وإلى يوم القيامة هم أهل القرآن العالمين بمقاصده وحكمه والعاملين بأحكامه في كل التخصصات. (يتبع إن شاء الله بتكميل وشرح)

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com