نداء العلماء.. ومضامينه/ التهامي مجوري
بعد صدور نداء العلماء يوم الخميس الماضي، اتصل بي صديق عزيز ليتأكد من صحة البيان ونسبته إلى علماء الجزائر، باعتباري نائب رئيس جمعية العلماء ورئيس الجمعية وقّع عليه، ولما أكدت له ذلك تأسف كثيرا.. وقال لي ما مفاده إنّ هذا البيان يصب في صالح الخصوم الطبيعيين للجزائر… وتمنيت لو لم يكن..؛ لأنه يسير عكس التيار الوطني المفترض..، الذي يدعو إلى التقيد بالدستور في معالجة الأزمة التي تمر بها البلاد، والدعوة إلى مرحلة انتقالية وإلى ندوة وطنية، يخالف هذا المسعى الذي يمثل المسعى الأسلم، أما باقي البيان فلا غبار عليه..؛ بل هو من صميم المطالب الشعبية والخيار السياسي الراشد..، وانطلاقا من هذه القراءة لا أجدني مضطرا للكلام فيما زكاه صديقي، وإنما أذهب مباشرة إلى معالجة ما لم يعجبه في النداء وهو الأهم في الموضوع كما هو واضح.
وتعليقا على ما قال صديقي قلت له إنّ موضوع المرحلة الانتقالية المطلوبة، هي فترة قصيرة تمليها ضرورة المرحلة وطبيعة الموضوع. أما ضرورة المرحلة فنحن في ظرف استثنائي، وأما طبيعة الموضوع فهي أزمة سياسية وانتفاضة شعب على نظام يحكمه، وذلك لا يمكن معالجته بالأشكال الدستورية؛ بل إن الدعوة إلى فترة انتقالية هو الطبيعي في مثل هذه الظروف.
ومن ثمّ فإنّ هذه الدعوة إلى فترة انتقالية محدودة وليست لفتح الباب على مصراعيه لإعادة النّظر في كلّ شيء، كما يريدها أعداء الجزائر، الذين تعذر عليهم إقناع النّاس بفكرة المجلس التأسيسي، الذي أرادوا به إلغاء وجود الدولة الجزائرية وبناء الجمهورية الثانية.
على أنّ الاعتماد على الدستور وحده للنّظر في القضايا السياسية في الظروف الاستثنانية غير كافي؛ لأنّ الدستور وضع لمعالجة القضايا العادية، وليس القضايا الاستثنائية. فالمادة 102 مثلاً خاصة باستقالة الرئيس في الظرف العادي، أما وقد استقال الرئيس في ظرف استثنائي، في ظرف خرج فيه الشعب إلى الشارع احتجاجاً على هذا الرئيس نفسه، ويطالب بتغيير كلّ شيء، فالأمر مختلف، ولا يمكن معالجته إلاّ بحلول أخرى قد تجمع بين الدستوري والسياسي أو بتعليق العمل بالدستور نفسه واللجوء إلى البيان الدستوري والحلول السياسية التوافقية.
ومن ناحية أخرى، فإنّ هذا المسار الذي تبنته السطلة وهو الاكتفاء بالجانب الشكلي من الدستور، قد استهلك لم يعد صالحاً للتشبث به، بعد بطلان انتخابات الرابع من شهر جويلية التي أعلن عنها رئيس الدولة، ومن ثمّ فإنّ المسار الطبيعي والضروري هو الفترة الانتقالية التي هي ضرورية في هذه المرحلة، والضرورة تقدر بقدرها كما يقول الفقهاء، فمن النّاس من يقول لا ينبغي أن تتجاوز 6 أشهر ومنهم من رأى يمكن تمديدها إلى سنة، والعلماء تركوا ذلك لأهل الاختصاص، مع شعورهم بضرورة التعجيل بها، قياسا على المضطر لـ”أكل الجيفة”، التي يحرم أكلها بعد تحقيق عملية الإنقاذ من الموت، والأنسب في تقديري هو ستة أشهر على الأكثر وثلاثة أشهر على الأقل.
ثمّ إنّ نداء العلماء كان واضحا في ما دعا إليه.. وهو مرحلة انتقالية، ورغم أنه لم ينص على مدتها، فإنّه ربطها بإسناد تسييرها إلى شخصية توافقية وحكومة تصريف أعمال ولجنة للإشراف على الانتخابات، للوصول إلى انتخابات رئاسية. وكلّ ذلك يُشْعِر بالحرص على بتوفير أكبر قدر من الضمانات التي تحقق المطلوب من اختيار رئيس بشفافية كاملة وطمأنة الشارع الذي لا يزال يغلي.
لماذا الإصرار على هذا المنحى، والتوجس من التقيد بالأشكال الدستورية؟
الإصرار على هذا المنحى لتحقيق الضمانات الأكثر صدقية لانتخاب الرئيس المرتقب، وليس رفضا للمنحى ذاته، وإنمّا لأنه لا يحقق المطلوب بسبب الظرف السياسي الاستثنائي، ولكون أن إجراء انتخابات سيكون في ظلّ نظام مرفوض، وإدارة مشبوهة، وقيادات مدانة بمشاركاتها في النّظام السابق، ومن ثمّ فإنّ القبول بانتخابات في ظلّ نظام مُدان يعني التمديد في عمره وإعطائه فرصة تجديد نفسه.
يبقى التساؤل حول كيف الوصول هذه الشخصية التوافقية؟ وهنا كانت فكرة النّدوة الوطنية التي لا تعني أكثر من التقاء النخب الجزائرية بجميع مكونتها لبحث الأزمة أو المأزق.. فإذا كانت هذه الندوة قبل الانتخابات الرئاسية، سوف تكون حتما فيما هو مطروح من نقاش حول الفترة الانتقالية، والشخصية الوطنية التي تحظى بالمصداقية الكافية لتسيير هذه المرحلة الإنتقالية، ووجوه الحكومة التي تجسد المحافظة على المطلب الشعبي، واللجنة التي ينبغي أن تشرف على الانتخابات ذات المصداقية…إلخ، وإذا كانت هذه الندوة بعد انتخاب الرئيس، فستكون مهمتها النّظر في المسائل الأساسية التي تساعد على تغيير النّظام، الذي هو مطلب الشعب بالأساس؛ لأنّ الرئيس المنتخب لا نعتقد أنه سيعمل على تطبيق مشروعه السياسي، وإنمّا سيكون أول اختبار له، هو كيف يتعامل مع تركة النّظام السابق؟ ابتداء من الدستور الذي يجعل من رئيس الجمهورية ملكا في ظلّ جمهورية. وقانون الانتخابات الذي هو أيضا مصنوع على مقاس الرئيس السابق وشلته الداعمة له، وغير ذلك من المؤسسات التي تشبه الـمُلْكِيات الخاصة التي استولت عليها نخب المال الفاسد من أذرع العصابة التي هي محلّ متابعات ومطاردات الأجهزة القضائية والأمنية.
أنا لا أشك في صدق نية صديقي العزيز حينما اتصل بي وأطلعني على رأيه في البيان، ولكن ما تابعته من بعض الإخوان الذين اقتنعوا بما في البيان ودافعوا عن مضمونه أو الذين عارضوا البيان وهاجموه، يندى له الجبين من تقييمات يغلب عليها تصفية حسابات معا لخصوم أكثر منها قناعات سياسية تعبر عن إرادة حقيقية في البحث عن الحل.. فالذي يعتبر بيان العلماء “صفعة” لقيادة الجيش.. والذي يعتبره مساندا لفئات متربصة بالجزائر.. والذي يعتبره اصطفافا مع جهة ضد جهة… الجميع واهمون؛ لأنّ العلماء قاموا بواجب شعروا به تجاه بلادهم.. ولو أنّ السياسيين وغيرهم من القوى الشعبية والوطنية قاموا بواجبهم، لما وصل الأمر إلى هذا المستوى، الذي يضطر فيه علماء الأمة، الذين هم على ثغور أخرى انشغلت الأمة عنها، إلى أمور الإدلاء بدلوهم، وذلك ليس زهداً وإنمّا هو إيمان بضرورة الفصل بين التخصصات، فكلّ يبدع في مجاله… ومع ذلك فإنّ إصدار العلماء لهذا النداء، لم يبن على جهل أو ارتجال أو تدخل منهم فيما لا يعنيهم أو سذاجة منهم كما قالها بعضهم صراحة، وإنما هو بيان علماء يعرفون حدود مسؤولياتهم ويعرفون رسالتهم تجاه أمتهم، ولا ينتظرون من ينبههم إلى متى يقولون؟ وماذا يقولون؟ وكيف يقولون؟