شعاع

أزمتنا في التعبير عن الرأي …/ حسن خليفة

من يتابع مجريات الأحداث يستطيع أن يلحظ ويلتقط بدون عناء كبير بعض الإشارات التي تدلّ على سيطرة بعض الرذائل وتفشّيها في ساحتنا التعبيرية الوطنية(حديثا وكتابة) على نحو يصعبُ تفسيره أحيانا… ومناسبة هذا الحديث هو التداعيات التي لقيّها “بيان العلماء ” الذي صدر قبل أيام معدودة واجتهد أصحابه في تقديم مقترحات عملية على طريق الخروج من الأزمة المستحكمة في ساحتنا السياسية  العامة، إثر سقوط مشروع العصابات السابقة، مع بقاء امتداداته وغيومه وشروره ومفاسده الكبيرة في كل قطاع .

يصعب أن نستوعب الكلام الخادش للدين، والكلام المسيء للكرامة الإنسانية، والكلام غير المتّزن، والتعليقات الرعناء “الفايحة”، كما يصعبُ أن نستوعب بشكل أكبر أن يكون ذلك من بعض كبار في السن(أكثر من 70 سنة)، ولا داعي لذكر الأسماء، يقدحون في علماء أجلاّء، دون وجه حق، ويصفون بعضهم بـ”التافه والحقير”…

شيء يكبُر على الاستيعاب والفهم حقا؛ ولكن يمكن فهمه في سياق عام وهو بعدُنا الكبير عن تحكيم العقل، والاستئناس بالأصول والقيم والمباديء حين التعامل مع بعضنا… وإلّا كيف يمكن أن يُفسر الهجوم المقذع الشنيع الذي بلغ مستوى الإسفاف والابتذال في التعليق على بيان سجّله أصحابه يريدون به الإسهام في بلورة حلول تقريبية ومقاربات منهجية عَملية في سبيل الوصول إلى المبتغى وهو إيجاد مخرج مُرض مفيد يحلّ الإشكال بطريقة جذرية، ويُخرج البلد من أزمات طالت واتسع مداها حتى لا نجد مجالا واحدا لم يصل إليه التخريب والهدم والإفساد.

وأبسط ما يمكن أن نقوله: إنه اجتهاد، والمجتهد يصيب ويخطيء، فلنفترض ـجدلا ـ أن هؤلاء أخطأوا فهل يكون التعامل معهم على النحو الغارق في الإسفاف والانحطاط؟ وهل يمكن أن يكون “التعامل” مع بعضنا بهذا الشكل المقرف البائس، ونحو نرنو جميعاً إلى مخرج يعيد إلى حياتنا رواءها وجمالها واتساعها؛ حيث ضاقت وانكمشت في الأزمنة السابقة حتى لم يعد هناك مجال للرأي الحرّ والمبادرة الحرّة… والاجتهاد.

ثمة شيء يحتاج منّا إلى وقفة طويلة نسجّله هنا وهو غياب القيّم الجميلة الراشدة والمباديء المنصفة في ساحاتنا التعبيرية، وفي سجالاتنا ونقاشاتنا. هناك إشكال كبير في قبول الرأي الآخر، أو الرأي المختلف…هناك ضيق وتذمّر من التغريد خارج صندوق الهوى الذاتي .يكفي أن يعبّر الواحد عن رأيه حتى يجد نفسه محلّ هجوم لا يُبقي ولا يذر، ولا يتورع عن استخدام أكثر الألفاظ بذاءة وسوقية وقسوة ونذالة في وصف الآخر، بل يبلغ الأمر درجة الدخول في النوايا ومعرفة الغيوب.

مثالان بسيطان قريبان: بيان الثلاثة قبل مدة، ثم بيان العلماء قبل أيام قليلة، وما تبعها من زوابع وعواصف، قد يكون بعضها طنين الذباب الإلكتروني المبرمج، لكن البعض منه من مدوّنين معروفين بأسمائهم على الأقل للأسف كان منسوب الإقذاع فيه كبيرا للغاية، وذلك ما يؤشر على السلبية الكبيرة التي تلتبس بها قضية أزمة التعبير عندنا، وهو ما يدعو إلى اهتمام حقيقي بمسألة حريّة التعبير أساسا وتحرير مفهومها من كل لبس أو اختلال إذ إن حرية التعبير “كغيرها من الحريات الأخرى، تحتاج إلى ضوابط وقيود، بسبب ما قد تتعرض له من سوء استعمالها وسوء التصرّف فيها.ولذلك تكثر هذه القيود بقدر ما تكثر التجاوزات والإساءات في استعمال الحقوق والحريات..” (أنظر:الأمة هي الأصل ص74).

لعلّه مما يستوجب التوقّف عنده تأكيدا لهذه الأزمة الحادة العامة أننا ـحتى الآن ـ لم نصل إلى وفاق ولو تقريبي بشأن إشكال كبير وقع، ولعلّ جزءا من هذا الإخفاق إنما تخفيه أزمتنا في التعبير وسوء تقديرنا لمآلات الكلام وتداعياته ونتائجه الوخيمة. إنه بدل أن تكون اللغة وسيلة للتقارب والتفاهم والتواصل المثمر المفيد، ها هي ـ بسبب من سوء التصرّف وسوء الاستخدام وسوء الفهم لحقيقة حرية التعبير، ها نحن ندور في حلقة مفرغة تزداد اتساعا، ويزداد فيها التباعد بيننا وبين بعضنا أكثر فأكثر. وكخلاصة نرجو أن تكون مفيدة، نذكر ببعض ما يجب أن يُفهم من حرية التعبير من حيث الموازين:

ـ أن حرية التعبير ليست فرصة للتغلّب والتصلّب، ولا وسيلة لإحراج المخالف وإضعاف موقفه، فضلا عن شتمه وسبابه والإساءة إلى كرامته وإنسانيته ودينه وعلمه.

ـ وليست حرية التعبير مجالا للسفسطة وقلب الحقائق، ولا ساحة للتباري في الجدال والنقاش المسف

ـ وليست حرية التعبير إرسال الكلام على عواهنه، دون ضوابط ولا قيم.

ـ إنّ حرية التعبير لا تعني الإساءة إلى المبادئ ذاتها كالدين والحرية والتاريخ.

حرية التعبير مسؤولية كبيرة تحتاج إلى من يزن فيها كلماته، ويقدّر مآلاته ووقعها وما تسببّه من خير أو شرّ. وحرية التعبير إخيرا مسؤولية كبيرة أمام الله تعالى يُحاسب عليها المرء فهل نستفيق؟ وهل نتعلم ونتدرب على مفردات الحرية الأساسية وقبول بعضنا وحسن الاستماع لآراء بعضنا والرد عليها بما يجب من إنصاف وتقدير ومراعاة حال، وحجة وبيان، ونية صادقة وهدف نبيل ووئام ومحبة؟.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com