في رحاب الشريعة

فريضــــة الـتـعــــارف بيـن الـمؤمـنـيـن استجابـــــــة وامـتـثـــــالا لأمــــر رب العـالـميــن/ محمد مكركب

بسم الله الرحمن الرحيم﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[الحجرات:13] التعارف والتآلف والتعاون والتكاتف من الفرائض المجتمعية التي يقتضيها التكافل بين المسلمين وجوبا، ومسؤولية تطبيق هذه الفرائض تقع على الأمراء والعلماء في إلزام الشعوب الإسلامية بالتآخي والاتحاد، وتحكيم كتاب الله فيهم. من عجائب المعجزات في القرآن الكريم نظما وحكما وترتيبا أن المتدبر بوعي وحكمة يفقه الحلول لكل القضايا من القرآن، خاصة في وجوه التناسب بين موضوعات القرآن في استخدام المصطلحات مثال: وجه التناسب بين التقوى والإصلاح، في قوله تعالى:﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ﴾[الأنفال:1] تساءل الصحابة الذين شاركوا في غزوة بدر عن تقسيم الغنائم في قضية الحقوق المالية وهو جانب من مجالات الاقتصاد عموما. عن عبادة بن الصامت (سئل عن الأنفال فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، أي كيف يقسم) والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلو أن المسلمين اتقوا الله وأصلحوا ذات بينهم لفتحت عليهم البركات من السماء والأرض، ولكن تنازعوا واختلفوا ولم يتعارفوا ولم يتآلفوا. وانظر وتدبر وجه التناسب بين التقوى والتعارف في آية الموضوع:﴿لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ﴾ لو كان المؤمنون متقين لتعارفوا، ولو تعارفوا لكانوا مُكَرَّمين في الدنيا والآخرة.
ما هو مفهوم التعارف: في آية الموضوع:﴿ لِتَعارَفُوا﴾ لِيَعْرِف بَعْضكُمْ بَعْضًا على منطق الإنسانية وعلى فهم تاريخي كلكم لآدم، وعلى فهم جغرافي أين تسكن على أرض الله كسائر الناس، فتعارفوا على أنكم من نفس واحدة وأنتم إذن إخوة أشقاء من أب وأم، فلم تتنازعون وتتفرقون وتتقاتلون؟ فالله خلقكم من ذكر وأنثى لتتعارفوا على نسبكم الأصلي أنتم من آدم، لا على نسبكم القريب منكم، كيف تمسكتم بالفرع ونسيتم الأصل. فالله لم يخلقكم من ذكر وأنثى لتتفاخروا بنسبكم القريب منكم، وبجهتكم من الأرض على جهة أخرى. وكأن المعنى: فأنتم أيها الناس أبناء آدم وحواء، فلا يفضل ذلك أخ على أخ، ولا أخت على أخت، فالأب واحد والأم واحدة، فلم التفاخر والتنابز بالألقاب ولماذا يسخر قوم من قوم ولم يقتتل قوم مع قوم؟ وفي الأثر من النصيح: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، إذ يوشك من لا يعلم نسبه أن يتزوج ذات محرم». ولهذا أفتينا بعدم جواز زواج السر، وقلنا بأن نعمل بما أمر الله من وجوب الإشهاد في الطلاق والرجعة ليحفظ تاريخ العلاقات النسبية وتعرف بين الناس، زوج فلان وأم فلان وأب فلان حتى تتحقق سنة الله في صفاء وطهارة النسب.
يقال تعارف القوم عرف بعضهم بعضا، وتعارفوا على أمر أي اتفقوا عليه، وهو من العرفان والمعرفة وهو العلم بالحال والخصوصية، ومنه التعريف: الإعلام، وإنشاد الضالة. ومنه عرف الضالة نشدها، أي: ذكرها وطلب من يعرفها بأن يصفه، ومنه قول العرب: إذا اعترف لنا عرفناه. والهدف من التعارف: 1 ـ الاستئناس فعندما يلتقي المؤمن أو المؤمنة بمن يعرفه حق المعرفة بأنه مؤمن يبادله المودة والرحمة والأخوة الإيمانية فإنه يستأنس به ويأوي إلى جواره، آمنا مطمئنا، وإذا كان لا يعرف ولو أنه مؤمن يظل في ريب منه خاصة في أزمنة الفتن والحروب وفي حالات السفر والغربة.
2 ـ الثقة وما يدريك ما قيمة الثقة في بناء العلاقات، ثم ما أجل هذه القيمة أيضا!! وتفتقد الثقة بين المؤمنين عندما يجهل بعضهم بعضا.
3 ـ سهولة التواصل، عندما يتعارف المسلمون على الإيمان وتمتد بينهم روابط الاتصال يقوى اتحادهم وتتحسن عشرتهم وتتحصن أخوتهم.
4 ـ التكافل الاجتماعي والتعاون بكل أنواعه أخلاقيا ودفاعيا واقتصاديا وعلميا وسياسيا.
5 ـ التراحم ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:71]، (وَضِدُّ كُلِّ امْرِئٍ مَا كَانَ يَجْهَلُهُ..وَالْجَاهِلُونَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْدَاءُ).
6 ـ التعارف بين المؤمنين يغلق مداخل الشيطان فلا يتسلل الشيطان إلى صفوف المسلمين ويشتت شملهم إلا عندما تفتر روابط التعارف بينهم وتضعف لقاءاتهم ويجهل بعضهم بعضا، حينها ينتشر الظن بينهم والحسد والغيرة ويتحول إلى حقد ثم إلى حرب بينهم ومدير كل هذه العمليات (ظن السوء، والسخرية، والحسد، والغيرة، والعجب، والاستكبار) من تسيير الشيطان لعنه الله.
7 ـ ومن ثمرات التعارف التكامل بين أبناء الأمة، عندما يحنون على بعضهم ويتراحمون ويتعاطفون تكفيهم حبةُ تمر وشربةُ ماء وقطعةُ كِساء، وخيمة تنصب على أرض الله وخاصة عندما يصل إيمانهم إلى يقين إيمان رسول الله صلى الله عله وسلم [مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا] (الترمذي.2377).
لاشك أن صرح الأخوة قد تصدع وانهار بسبب التهافت على الدنيا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة:[إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي، مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا] (مسلم.1052).
ومن التعارف ما يتعارف عليه الناس من آداب وعادات وتقارب في السلوكات، وكلما تعارفوا تقاربوا، وكلما تقاربوا تحابوا وتناسبوا. خصوصا نحن معشر المؤمنين إن إلهنا واحدٌ وإن أبانا واحد، وأمَّنا واحدة، ليس هناك فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لهندي على صيني، ولا لأوروبي على إفريقي ولا لشرقي على غربي ولا لشمالي على جنوبي إلا بالتقوى، والإنسان ينسب لدينه ويعرف بسعيه، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه. [كن ابن من شئت واكتسب أدبا يغنيك محموده عن النسب. إن الفتى من يقول ها أنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي].[ لا تقل أصلي وفصلي أبدا إنما أصل الفتى ما قد حصل] إن الإيمان أزال الفوارق العنصرية والعرقية والأفكار العصبية الجهوية، أزالها من نفوس العاقلين من العجم والعرب والهند وغيرهم، وجعل الجميع يرجع إلى مبدأ أساس يجمع كل الناس وهما الأب آدم والأم حواء، فردهم إلى الأصل الذي هو النسب الحقيقي، فَحَرُم الكبر والاستهزاء والسخرية كما جاء في السورة (سورة الحجرات. فالناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء فإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء).
إن الهوان الذي يعانيه المسلمون سببه التباعد والتناكر والتجافي عن بعضهم، وما يزالون يزدادون شقاقا وفراقا. ومن عجائب الأمور في سلوك المتخلفين المتنازعين أنهم يدَّعون الفهم وهم جاهلون: يُروى أن جماعة كانوا في جمعية خيرية ولقلة إخلاص بعضهم، ولغياب مقاصد الإسلام من رؤيتهم، تنازعوا وتخاصموا وانقسموا، بسبب التنافس على المصالح الشخصية في الجمعية، فجاء شيخ يحاول أن يصلح بينهم، فأول ما بدأ الكلام، بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، نطق أحد المتخاصمين وقال للشيخ: الجماعة (يقصد نفسه والذين معه في الجمعية المنقسمة) هم في عمل إسلامي ويعلمون ما قاله الله وما قاله الرسول بشأن الأخوة والتآخي!! ولكن قل لهم ما هو الجديد في الاقتراح؟! هذا الجهل من أقوى الأسباب التي جعلت المسلمين لا يتحدون ولا يتقدمون، لماذا لأنهم (مع الأسف) وحتى كثير من العلماء المتخاصمين المتمشيخين يعتقدون أنهم تدبروا القرآن وفقهوه واطلعوا على الحديث وفهموه، ومع ذلك فهم يتخبطون في خصوماتهم ومشاكلهم، فحسب زعمهم هذا أن الحلول لقضاياهم ليست في القرآن ولا في الحديث وإنما في هواهم أو عند أعدائهم!! والحقيقة أن الذين يعيشون الفتن والنزاعات والتقاطع والتدابر ما فقهوا القرآن ولا الحديث.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com