كيف نجابه الأهوال؟/ أ. د. عمار طالبي
إن مواجهة المحن الكبرى تتطلب الثقة، والتضحية، والوحدة الضرورية لإنجاز المهمات التي تقتضي الصبر والبطولة أمام عواصف التاريخ، والاستناد إلى جوهر العمل الفعال الذي تدعمه عناصر أخلاقية، يحمي بها المجتمع نفسه من الانفرادية، وأصناف التمزق، ولا يستطيع هذا المجتمع مجابهة أية محنة إلا بجهود تستند إلى عقيدة لا يتطرق إليها شك، فالتعاون بين الفرد والدولة لابد له من جذور تمتد في عقيدة تجعل بذل الجهد أمرا ضروريا، إذ يضحي في سبيلها صاحبها بحياته، أو على الأقل بمصالحه، تدفعه عقيدة مقدسة في نظره.
وقد حاول الاستعمار أن يفصل المسلم عن إسلامه، غير أنه باء بالفشل، سواء بمحاولته ذات الطابع اللاديني، أو ذات الطابع الديني بالتمسيح.
فكان الإسلام القلعة التي أحبط تحت أسوارها كل محاولاته لسلب الشعب الجزائري شخصيته، على مدى أكثر من قرن، كما أنه كان الدافع الإيديولوجي الرئيسي الذي جعله يبذل جهده البطولي أثناء الثورة، ومعنى هذا أن الخروج من الأزمة يحتم علينا العودة إلى المنابع التي نبع منها تاريخنا.
إن أية ثورة تتجه إلى صنع شيء في التاريخ يجب أن تنبع إرادتها من ذاتها، تهيئ بها نفسها، وكما قال أحد المتأملين في الثورة الفرنسية وهو دوبونال: “من الإنجيل إلى العقد الاجتماعي، فالكتب التي تصنع الثورات”.
إن هذا جانب استراتيجي نظري الذي يولد إيديولوجية ثورية، وما ترمي إليه من غايات بعيدة مرتقبة.
إنها تتعلق بالمهمات العاجلة والمتجددة وما يمليه سير الثورة في كل لحظة، وهو ما يسمى بالتكتيك الثوري، وخاصة إذا كان موقع الثورة الجغرافي يجعلها في نقطة تقاطع للثقافات، والديانات، والحضارات، والمصالح الاستراتيجية المتعارضة، وفي مركز شبكة المناورات التي يحيكها أخصائيون مشرفون على ” لعبة الأمم” كما في المقاومة الفلسطينية. (مالك بن نبي بين الرشاد والتيه ص122) فالحجة قائمة في جدلية التاريخ أن التكنولوجيا وحدها لا تستطيع أن تقهر الذرة الإنسانية، فهي يعسر تحطيمها وإن كثرت الأجهزة الضخمة التي قد يصيبها العطب أو العجز، فجيش المحتلين الذي لديه ما يشتهي ويجر أجهزته الضخمة في رابعة النهار لا يقارن بجيش الشعوب المكافحة الذي يسير في ظلمة الليل كي لا يرى، كما أشار إلى ذلك روسي في كتابه: (مفاتيح الحرب)، ولذلك يقول: إن رجال فلسطين ونساءه، وأطفاله أصبحوا في وضع لم يبق لهم فيه سقف ولا أرض، ولا مال، فهؤلاء المنبوذون في وطنهم المحذوفون من قائمة الأمم بإرادة الدول الكبرى ومكرها ونفاقها، هؤلاء أدركوا أن وجودهم الذي وضع هذا الموضع إنما هو مضطر إلى استعمال بندقيته.
إن أية بشرية مهما حشدت من المال والتقنيات والأجهزة لن تستطيع أن تحذف أمة من الوجود.
لكن ما هي الوسائل التي في يد أي شعب في ساعة الصفر من إقلاعه؟
إن الاستعمار الحقيقي يكمن في رأس كل مواطن وفي عضلاته، وتصميمه، وفي ترابه رغم فقره.
إن ألمانيا بعدما حطمت في نهاية الحرب لم يكن لها مال عدا 45 مارك لكل شخص، ولكن اعتمدت على استثمار فكرها ويدها، وإمكانها المتوفر! إذ كل قرض أو استثمار يأتي من الخارج لا يمكن أن يكون القاعدة التي يقوم عليها نهوض الشعب.
إن القضية لا تكمن في فقر الوسائل لأن العمل هو الذي يصنعها، ولكن القضية تكمن في فقر الأفكار، فكل أمة متخلفة تستطيع دفع عجلة النهوض على أساس دستوري مضمون: التكفل بسائر الحقوق وفرض جميع الواجبات، وبذلك يدفع الحركة الاجتماعية التي تقضي على كل ركود، فهذا هو طريق الإقلاع.
إن اللجوء إلى رؤوس الأموال الأجنبية التي تفرض شروطها السياسية يعرض البلاد لمشكلات لا حل لها أو تفرض شروطا فنية تجعل استثمارها لا جدوى منها.
فهناك فرق واضح بين الاستثمار المالي الكلاسيكي الذي يعتمد أولا على “ّقوة الشراء” والاستثمار الاجتماعي الذي يعتمد في أساسه على “قوة العمل”.
إن الشعب الجزائري اليوم يصنع تاريخه، بوعيه وفكره، ووجدانه، شبابه وكباره، وزاده لا يمكن إلا أن يكون الاعتماد على إمكاناته المتوفرة وهي كثيرة، إذا أحسن التصرف فيها وإدارتها بخبرة شبابه، وطاقته الاجتماعية لصنع ثقافة جديدة، وأخلاقية طاهرة، تكون الأرضية الراسخة لكل مناشطه وأعماله، تنبثق من عقيدته الراسخة التي تسنده في كل محنة وتنقذه في كل أزمة وشدة.
عزيمة الشعب الجزائري لا تقهر، وإرادته لا تنطفئ، مهما تعرض لعسر فإنه يلحقه يسر لا محالة بإذنه تعالى.