قضايا و آراء

ومن الحب ما يحيي ومن الحب ما يقتل /حجية شيدح

الحب شعور راق يعيشه الإنسان في علاقة عبادة مع الله ترتقي به إلى الرضا والفاعلية في الحياة، وفي علاقة ود وإحسان مع المجتمع الإنساني

لبناء حياة تتميز بالأمن والسلام.

شاع استعمال هذه الكلمة في زماننا وكأنها من الكلمات المستهجنة التي يستحي كثير منا من ذكرها وذلك لما ألحقه واقعنا بها، إذ أصبحت تعبر عن العلاقات المشبوهة السائدة في حياتنا والتي يصورها واقعنا اليوم، أو عن تلك الصور التي يبثها الإعلام من أفلام ومسلسلات تصور الحب كأنه علاقات غير مشروعة بين أفراد المجتمع، بين نساء متزوجات مع شباب ماجن أو رجال متزوجين مع نساء مراهقات، وعبر شبكات التواصل الاجتماعي أو في الواقع العملي بعيدا عن الحلال، أو الحب الذي ينشره الأدب الهابط في أشعار وروايات لا صلة لها بمبادئنا وهويتنا الأصيلة.

إن هذه الكلمة تحمل معانٍ راقية ولها ظلال عميقة في أبعادها الروحية والحضارية، تعبر عن علاقة متينة بين الله وعباده وبين العباد في تمدنهم وبين العباد وسائر المخلوقات.

لقد حدثنا الله عز وجل عن علاقة الحب بينه وبين مخلوقاته فقال:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}[البقرة/165].

وقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة/50].

وفي الحديث القدسي يقول تعالى على لسان نبيه _صلى الله عليه وسلم – :”من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ”  رواه البخاري.
والتصور الإسلامي يربط بين المؤمن وربه بهذا الرباط العجيب الحبيب، وليست مرة واحدة ولا فلتة عابرة، إنما هو أصل وحقيقة وعنصر في هذا التصور أصيل : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا .. إن ربي رحيم ودود .. وهو الغفور الودود .. وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان .. والذين آمنوا أشد حبا لله .. قل: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله . . وغيرها كثير . . [1]

وهذا الحب هو الذي يبني الحياة البشرية على أسس راسخة تراعي الله في كل حركاتها وسكناتها، إن الحب البناء هو الذي يربط بين المؤمنين برباط متين ابتداء من الأسرة إلى الأمة، فيجعلهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وقد أبدع الشيخ سحنون في تحديده للحب الذي نحتاج إليه في مقال له تحت عنوان:” الحب” وأشار إلى أنه يمكن أن يستغرب القارئ حديثه عن الحب في منبر للوعظ والإرشاد، لكن القارئ حين ينتهي من قراءة المقال يدرك البعد العميق عند الشيخ في تحليله للمعنى الصحيح للحب إذ يرى أن الحب الحقيقي “هو الحب الروحي الخالص من شوائب المادة وأكدار المنافع الدنيوية الزائلة الحب في الله الذي تغرسه الأخوة الإسلامية الكاملة، إن المسلمين اليوم لو تحابوا لتناصحوا ولتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ولما رضوا لأنفسهم هذا القناع الصفيق من النفاق الذي  حجب العيوب وأخفى وراءه جراثيم الداء المبيد، ولكن المسلمين اليوم بعد أن أقفرت نفوسهم من أريج الحب الأخوي أصبحت النصيحة بينهم جريمة…إن الحب لأنواع وأشرفه ما كان لله وهو الحب الذي ربط بين المسلمين برباط الأخوة الدينية وجعلهم وحدة قوية متماسكة استطاعت أن تكتسح من طريقه قوى الظلم والوثنية …[2] إن هذه المعاني للحب يستوحيها العلماء الذين لا ينظرون للحياة بحدود الحياة الفردية بل بما لها من امتداد في حياة البشرية … وهذه المعاني التي أشار إليها الشيخ سحنون حين اختفت من واقعنا أصبح الإخوة يتقاتلون بدون هدف محدد كما يحدث في كثير من البلاد الإسلامية، إذ تغلبت عليهم المصلحة الفردية وحب الزعامة فتآمروا مع ألذ أعدائهم(الصهاينة) ضد إخوانهم وضحوا بملايين المسلمين من أجل الحفاظ على كراسيهم الملطخة بدماء الأبرياء.

إن الحب الحقيقي هو الحب الذي يحيا وينمو منضبطا بضوابط الشرع على مستوى الأفراد والجماعات، الذي يرقى بأخلاقنا لأنه ينمو داخل الأسر وبين ذوي الأرحام، ليس الحب الشارد الذي يميت أخلاقنا ويدمر مجتمعاتنا بدعوى الانفتاح الذي ليس هو إلا  ضلالا وضياعا، فالحب الذي يحيي هو الحب الذي يوجد حلاوة الإيمان فتنضبط الروح والجوارح بضوابط الدين، والحب المميت هو الذي يقتل القيم والأخلاق والأبرياء في سبيل الملذات والمصالح الفردية.

 

[1] _ سيد قطب ، الظلال ج ،6 ص 918

[2] _أحمد سحنون ، الحب ، الشهاب  العدد 360 ص3

اظهر المزيد

تعليق واحد

  1. بارك الله فيك أستاذتنا القديرة
    قرأت قبل أكثر من عشر سنوات فصلا لابن تيمية من مجموع فتاويه بعنوان: قاعدة تحرك القلوب إلى الله ذكر فيها أن كل الحركات والسكنات في هذه الدنيا تتحرك بالحب لا يقوم شيء بالتحرك إلا بالحب حتى إذا كان مكرها على فعل ذلك الشيء فإنه يفعله لحبه لمن فعله من أجله.
    معاني الحب عجيبة غريبة ويمكن للخيال المرت بالشرع أن يغوص فيها ويستخرج منها الكنوز.
    أسأل الله تعالى أن يوفقنا لكل خير.
    وأشكرك مجددا أستاذة على المقال

زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com