رواء مكة -02/ عبد القادر قلاتي
أجمل ما فعل حسن أوريد، أن سجّل تجربتة تحوّله الفكرية في رواية أدبية، بدل تقديمها في كتاب فكري يحتاج إلى تنظير ومفاهيم، وربما لا يمكم من قرأته قطاع واسع من النّاس، وخصوصاً الجيل الجيّد، الذي تعوّد على القراءة البسيطة والسهلة، وربما الرواية أسهل الطرق بالنسبة إلى هذا الجيل، لما فيها من عنصر التشويق والإثارة، فتجد المتتبع للرواية يستوعب فكرة الموضوع بسهولة، عكس الكتاب الذي يأخذ شكل الموضوع في إطار قراءة لمفاهيم فكرية ومناقشة لأفكار ربما يتوه القارئ المبتدأ ليفهمها.
في بداية الرواية شرح الكاتب معنى رواء في لسان العرب، فكلمة رواء بالفتحة معناها: عذب و أنشد ابن بري لشاعر:
من يك ذا شك فهذا فلَجُ…ماء رَواء وطريقٌ نهجُ
أما الرُّواء بالضم فهي المنظر الحسن، وهو قصد الأولى الرَوَاءُ بالفتح، لم يكن الكاتب يبحث عن هذا التحول الفكري، بل ساقته إليه الأقدار رغماً عنه، فقد عُرض عليه الحج وفي منصب سياسي، وسلَّم نفسه لهذا القدر وهو لا يرجو من هذه الزيارة إلاّ سياحة يكتشف فيها مظاهر هذه الشعيرة التي تشكل جملة من المعاني في المروث الشعبي الديني والثقافي، لكن صاحبنا المثقف ليس له من هذه الممارسات الدينية الاّ معرفة سطحية تشكلت في لحظة من حياته ليس له أدنى مسؤولية فيها، فهو ابن عائلة بسيطة متدينة كعادة أهل المغرب، وربما ما يعرفه عن هذه الشعيرة لا يتجاوز، ما يعرفه أي شخص عادي، فيقول: “خواطر شتى تتجاذبني وأنا أتوجه من مكناس، حيث كنت أقيم إلى الدار البيضاء لأداء فريضة الحج.. هل قدرت يوماً أني سأشد الرحال إلى الأراضي المقدسة.. هل قدرت يوما انني سأشد الرحال إلى الأراضي المقدسة، وقد نفرت عما كنت أراه رسيس تربية ومخلفات ثقافية؟..هل يستقيم هذا العزم وقد نبذت ماضيَ ورائي ظهرياً؟ وهل هو حج أم استكشاف؟ وأي استكشاف يكون؟..”، كل ما في هذه الرحلة يوحي بعدم الجدية؛ لأن نية العبادة غائبة في قاموس هذا المثقف الحداثي قبلاً، لكن ما الذي جرى حتى حوّل الرجل وجهته، واستحضر النية في آخر المطاف، وتحوَّلت رحلة الاستكشاف إلى رحلة في رحاب محراب التعبد والخضوع والانقياد للخالق الأجل؟ كيف لهذا الذي كان يجهل سرَّ هذه الرحلة أن يتحوَّل هذا الانسان الجديد الذي يصف حاله بعد الحج: “وأتممت الحجّ.. كانت الكعبة المشرفة لقاء.. لقاء مع ذاتي.. كان طوافي بحثاً، ولما أن فرغت سعيت، وبعد السعي، انزوت جانباً أنظر إلى ما حولي وأتملى حياتي…كان لحجي ألا يكون إلا شعيرة. وفجأة، نعم، كما يتفجر من الاعماق تحوَّل رَواء انبجس من داخل نفسي..كنت اشرب من ماء زمزم من كوب من ورق مقوّى وأنا أنظر إلى جموع الساعين يمشون في رفق، ثم ما يلبثون أن يهرولوا. هل لكلّ ما أرى من معنى؟ وفجأة وقفت وأنا أردد بلى…هل الحياة إلاّ تلبية لنداء الله..له وحده لا شريك له…في كلّ مكان وفي كلّ زمان…نعم كنت أردد النداء في لحظة معيّنة وفي كلّ مكان معيّن ولكنها تهيئة لفهم قصده في كلّ لحظة وفي كلّ مكان.. ومشيت لخطوات وأنا أردّد بالفرنسية. ولا أردي لِم.. أنا مسلم…” لحظة فاصلة لها ما قبلها ولها ما بعدها، ترجمة مطلقة لحالة نفس ارتوت بفائق أنوار الله تعالى، فاهدى الرجل والحمد لله، وعاد الى فطرته التي فطر عليها…حيث ينعم بالتقرب إلى الله تعالى عبادة وسلوكاً… فاللهم اهدنا فيمن هديت وتولنا فيمن تولت…. أمين