عن العربية ووجوب نُصرتها/ حسن خليفة
اتصوّر أن مما يجب الاهتمام به، على صعيد العمل الحضاري الإصلاحي الذي تُبذل فيه جهود طيبة، من مجاميع متكثّرة من المهتمين والباحثين والدارسين ـ من الرجال والنساء ـ في مواقع مختلفة: التربية ، الثقافة، الإعلام والصحافة ، الشأن الديني، الفكر، الإدارة، وسواها من الميادين والحقول …مما يجب الاهتمام به هو “اللغة ” والخطاب اللغوي، وأعني تحديدا هنا اللغة العربية والخطاب اللغوي العربي.
فمما لا تخطئه العين اليوم هذا التردّي الكبير في الاستعمال والتداول اللغويين …ومن يلقي نظرة فاحصة على ساحاتنا اللغوية في الشارع في المؤسسات، في أساليب التعبير في فضاءات التعبير الكبيرة كوسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي يلحظ ـ دون ريب ـ ذلك التدنّي البشع في المجال اللغوي؛ فمن استخدام التعابير المبتذلة التي لا تكاد تؤدي المعاني المطلوبة.. إلى التوسع في استعمال “الدارجة ” على نحو بغيض مقزز في عديد البرامج والفقرات التلفزيونية، والمسلسلات وبرامج الحوار المباشر، وأخطر ما يكون ذلك في برامج الترفيه والبرامج المسمّاة (البرامج الاجتماعية الأسرية) دون أن ننسى الحديث عن “الإشهار” الذي صارت لغته الوحيدة تقريبا “الدارجة ” (المهرّسة) التي تميل أكثر فأكثر إلى الأداء السلبي باستخدام التعابير غير النظيفة وغير اللائقة…بل لقد بلغ الأمر إلى حدّ استعمال الدارجة المهينة المعيبة في نشرات الأخبار وبعض البرامج الجادة …
وأيا تكن الأسباب وراء كل ذلك فإن ما ينبغي أن يشغلنا ـ في تصوري ـ هو إيجاد خطط قوية متكاملة في سبيل التمكين للعربية في حياتنا، هذه اللغة الجميلة السلسة القادرة على الوفاء في التعبير والأداء عن كل مكنون وكل معنى مهما دقّ أو صغر، وفي أي ميدان من ميادين الحياة وساحاتها .
قد يفيد أن نشير هنا إلى أن العدوان على العربية قديم يعود إلى عقود طويلة من الزمن؛ حيث حاول الكثير من المستعمرين وأذنابهم ومبشّريهم وكتابهم وطلائعهم من الخبراء الاستراتيجيين القضاء على اللغة العربية بأي شكل كان ؛ لأن العربية كانت بالنسبة إليهم حصنا من حصون الإسلام في الأساس ، والنيل من الإسلام يمرّ عبر النيل من العربية كلغة (للقرآن الكريم) .
يقول الأستاذ إبراهيم الحقيل في مساهمة له في (الإسلام اليوم ):
…”لقد اشتدت على لغة القران حربهم، وتنوعت أساليبهم ووسائلهم، وما وهنت عزيمتهم، ولا يئسوا من تحقيق مرادهم، وكان من محاولاتهم البائسة: ادعاؤهم صعوبة العربية، ودعوتهم إلى إصلاحها والتعديل عليها: فمنهم من دعا إلى إلغاء الإعراب وتسكين أواخر الكلمات. ومنهم من دعا إلى تدمير قواعد الكتابة، وقال قائلهم في ذلك: إن سبب تراجع الأمة العربية تمسكها بالتشديد والتنوين. وسخر أحدهم من قواعد العربية، ودعا إلى تركها في مقالة عنونها بقوله:(هذا الصرف وهذا النحو أمَا لهذا الليل من آخر). وآخرون منهم ركزوا هجومهم على الخط العربي، ودعوا إلى كتابة العربية بالأحرف اللاتينية بعد أن أقنعهم بعض المستشرقين بهذا الإثم المبين، وألفوا كتبا في ذلك، وقاموا بتجارب ومحاولات استجلبوها من فعل الترك لما كتبوا اللغة التركية بالأحرف اللاتينية. وكانت أكبر محاولة لإلغاء لغة القرآن دعوة بعضهم إلى اللهجات العامية المحلية بديلا عن اللغة العربية، ونشط المستشرقون وأذناب المستعمرين لإنجاح هذه المحاولة. وفي القرن الماضي بذلوا جهودا مضنية في هذا السبيل المظلم، وتفرغ بعض الأوربيين لدراسة لهجات مدن مصر والشام، والعراق(والمغرب العربي وشمال إفريقيا)، وألفوا كتبا فيها، ووضعوا بزعمهم قواعد لها.ودعا أحدهم إلى أن تكون اللهجة العامية هي اللغة الوحيدة للبلاد المصرية. وألقى مستشرق محاضرة قال فيها بكل صفاقة ووقاحة: إن ما يعيق المصريين عن الاختراع هو كتابتهم بالفصحى ..”.
… وغير هذا كثير من الكيد المتصل المستمر، ونعلم ما حدث في بلدنا خاصة من محاربة العربية بكل الطرق، وإيقاف العمل بها في الإدارات والمؤسسات، وتجميد قانون استعمال اللغة العربية معروف، ويجب الاطلاع عليه والمطالبة بتفعيله ؛ خاصة في ضوء هذه الهبّة الشعبية الأصيلة التي تريد استعادة هُويتها والعربية هي خلاصة روح هذه الهُوية، دون أن يعني ذلك أبدا ما يتقوّل به المتقوّلون عن العربية. إذ العربية لغة عالمية كونية ، فضلا عن كونها لغة القرآن الكريم، ولكنها لسان شريف ومن تكلم العربية فهو عربي، ولا صلة لها بالادعاءات العنصرية والقومية الضيقة ..
إن الحاجة ماسّة لنُصرة العربية في ديارها وطننا وكل الأوطان التي تعاني فيها العربية من المزاحمة والمضايقة والمصادرة، ويجب التداعي في سبيل إيجاد خطط متكاملة فعالة لإعادة الاعتبار لسلطان العربية (كلغة عالمية) صالحة في كل مجالات الحياة وميادينها .وأتصوّر أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأنصارها في كل موقع ومكان قادرون باجتهاد استثنائي وحرص وتبصّر ومتابعة وصبر ..قادرون على أن يعيدوا للعربية ألقها ويبسطوا نفوذها الجميل في كل الأركان والميادين.
والأسئلة التي يجب أن تُطرح في هذا المجال هي : كيف ؟ ومن يقوم بذلك تحديدا؟ وما هي أنسب ُ الخطط والبرامج القادرة على تحقيق ذلك ؟ وما هو المطلوب من مجاميع المحبين للعربية والمنتسبين إليها والمتحمّسين لعودتها إلى الريادة والقيادة والحياة..ويكفينا أن نستذكر هنا لغة ميتة كاللغة العبرية التي أعادها أهلها إلى الحياة بعملهم وجهدهم وكفاحهم واجتهادهم ..وهو مثال على أن كل جدّ وعمل واجتهاد لا بدّ فيه من نصر وتحقيق نتائج ، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم …