طاعة الأمير… و الاجتهاد المقاصدي/ د, محمد عبد النبي
حين يجتمع الفهم القاصر مع المتابعة العمياء تقع الكوارث، ولا تزال مصيبة هذه الأمة في عقل لا توظِّفه، أو في تقليد، لا تميِّز فيه بين رشد وغيّ، ولا بين عالم ودعيّ، والذين يُسلمون قيادهم لكل من هبّ ودبّ سيُحاسبون على تعطيل ما أنعم الله عليهم من عقل، يُفرَّق به بين الحق والباطل، وبين الخطأ والصواب، ولا يعفيهم من ذلك ربط مصائرهم بهذا المتبوع أو ذاك، وبخاصة في فترات الجهل والفتن التي يختلط فيها الحابل بالنابل، بسبب الهوى المتبع، و إعجاب كل ذي رأي برأيه.
أخرج الإمام البخاري (9/63) ومسلم(3/1469) عن علي رضي الله عنه قال: “بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، وأمّر عليهم رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم، وقال: أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: قد عزمت عليكم لما جمعتم حطبا، وأوقدتم نارا، ثم دخلتم فيها، فجمعوا حطبا، فأوقدوا نارا، فلما هموا بالدخول، فقام ينظر بعضهم إلى بعض، قال بعضهم: إنما تبعنا النبي صلى الله عليه وسلم فرارا من النار أفندخلها؟ فبينما هم كذلك، إذ خمدت النار، وسكن غضبه، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا، إنما الطاعة في المعروف”. وفي رواية أخرى عند البخاري(9/88): “.. فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة، وقال للآخرين: لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف”.
وفي رواية ابن حبان(10/421) وأحمد(18/183) ما يكشف بعض ملابسات النص، ففيه:”.. وأمّر عليهم عبد الله بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب بدر، وكانت فيه دعابة (هذا يخالف رواية البخاري ومسلم التي أكّدا فيها أنه كان غاضبا؟) فكنتُ (أبو سعيد الخدري راوي الحديث) فيمن رجع معه، فبينا نحن في الطريق نزلنا منزلا، وأوقد القوم نارا يصطلون بها، أو يصنعون عليها صنيعا لهم، إذ قال لهم عبد الله بن حذافة: أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى، قال: فأنا آمركم بشيء إلا فعلتموه؟، قالوا: بلى، قال: فإني أعزم عليكم بحقي وطاعتي إلا تواثبتم في هذه النار، قال: فقام ناس حتى إذا ظن أنهم واثبون فيها، قال: أمسكوا عليكم أنفسكم، إنما كنت أضحك معكم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن أمركم بمعصية فلا تطيعوه”.
لا يوجد مثل الوقائع التي تحدُث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويبيِّن فيها لأصحابه وجه الصواب، تصريحا أو إقرارا، ولا يزال حديث الصلاة في بني قريظة -حين سكت مقِرّا الفريقين على فهمهما- مثالا على ذلك، كما لا يزال حديث معاذ حين بعثه إلى اليمن دليلا لمن لا يسعفه النص على مشروعية اجتهاد يُبتغى به حل القضايا، والإفتاء في النوازل.
أهمية هذا الحديث مرّة أخرى تتمثّل في أن الواقعة التي حدثت، والفهم الذي فهموه – للطاعة المعقودة للأمير- قد فصل فيهما النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى أن هناك سببا للورود أضاء على النصّ، وقيّد الإطلاقَ الذي قد توحي به بعض النصوص، مثل حديث أنس الذي أخرجه البخاري(9/62): “اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمِل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة”. وحديث ابن عباس بعده: “ من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت، إلا مات ميتة جاهلية”.
وقد بوّب البخاري لهذه الأحاديث بقوله: (باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية) وأورد الحديثين الأخيرين الموحيين بالإطلاق، ثم أخرج بعدهما حديث عبد الله بن عمر: “السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة.” ثم ختم بالحديث الذي بدأنا به، وفيه السبب المشار إليه، فكان ما ورد في ترجمة البخاري لهذه الأحاديث تلخيصا لمراد الشارع، وتقييدا لما قد يتبادر إلى الذهن من خلال النظر إلى بعض الأحاديث بمعزل عن الأحاديث الأخرى، وهو المسلك الذي درج عليه وعلى الدعوة إليه طوائف من العلماء في بعض البلاد، التي لا يُعلى فيها من قيمة الشورى ولا من قيمة الديمقراطية، إنفاذا لمزاج لا يرجو قدرا لواحد منهما، وتدثّرا بظواهر بعض النصوص المشار إليها، وهروبا من مقاصدَ يخلص إليها النظر المبصر في مجموع النصوص والأدلّة.
قال ابن حجر في الفتح(8/60): “وفيه- أي من فوائد الحديث- أن الأمر المطلق لا يعم الأحوال، لأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يطيعوا الأمير، فحملوا ذلك على عموم الأحوال، حتى في حال الغضب، وفي حال الأمر بالمعصية، فبين لهم صلى الله عليه وسلم أن الأمر بطاعته مقصور على ما كان منه في غير معصية.”
والعبرة مما سبق أن مَن أرادوا أن يفهموا الطاعة على إطلاقها أوشكوا أن يهلكوا، بالرغم من إرادة الامتثال للأمر! وأن مَن احتكموا إلى المقاصد- بالرغم من مخالفتهم للأمير- قد زُكّي صنيعهم فيما أبدوه من اعتراض على ما أُمِروا به.