من نفحـات شهــر رمضــان المبـــارك/ بقلم الشيخ الدكتور يوسف جمعة
أخرج البيهقي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أنَّ رسول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَالَ: (أُعْطِيتْ أُمَّتِي في شَهرِ رمضانَ خَمْسًا لمْ يُعطَهُنَّ نبيٌ قَبْلِي، أمَّا واحِدةٌ: فإنَّه إذا كان أولُ ليلةٍ من شهرِ رَمضانِ يَنظرُ اللهُ -عَزَّ وجَلَّ- إِليهِمْ، ومَنْ نَظَرَ اللهُ إليه لِمْ يُعَذِّبْهُ أبدًا، وأمَّا الثانيةُ: فإنَّ خُلُوفَ أفْواهِهِمْ حِينَ يُمْسُونَ أطْيَبُ عند اللهِ من رِيحِ المِسكِ، وأمَّا الثالثةُ: فإنَّ الملائِكَةَ تَستغْفِرُ لَهُمْ في كُلِّ يَومٍ ولَيلَةٍ، وأمَّا الرابعةُ: فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَأمُرُ جَنَّتَهُ فيَقولُ لها: اسْتَعِدِّي وتَزيَّنِي لِعبادِي، أوْشَكَ أنْ يَستَرِيحُوا من تَعبِ الدُّنيا إلى دارِي وكَرامَتِي، وأمَّا الخامِسةُ: فإنَّه إذا كان آخِرُ لَيلةٍ غفر اللهُ لَهمْ جَميعًا، فقال رجلٌ من القَومِ: أهِيَ لَيلةُ القدْرِ؟ فقال: لا، ألَمْ تَرَ إلى العُمَّالِ يَعملُونَ ، فإذا فَرَغُوا من أعمالِهِمْ وُفُّوا أُجورَهُمْ).
يعيش المسلمون في هذه الأيام في ظلال أيام مباركة من شهر رمضان المبارك، شهر الخير والبركة، شهر التسابيح والتراويح، شهر الصيام والقيام، وهو شهر أوله رحمه وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، وهو شهر فيه تصفو النفوس وتسمو الأرواح ، وتفتح فيه أبواب الجنة وتغلق أبواب النار وتُصَفّد الشياطين، يَا لَهَا من مِنَحٍ ربانية في شهر البرّ والجود والعتق من النار، تجعل الصائم يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالإكثار من أفعال الخير والبرّ، ومساعدة الفقراء والمحتاجين، والتوسعة على الأهل والرحم.
فضل شهر رمضان
رمضان خيرٌ كلُّه، نهاره وليله وأوله وأوسطه وآخره، فالمسلم في نهاره صائم وفي ليله قائم، ورمضان مجمع الفضائل، فقد جمع من الفضائل والخيرات ما لم يجمعه شهر من الشهور، فهو سيد الشهور، وقد اختصه الله سبحانه وتعالى بكثير من الفضائل، ويظهر ذلك من خلال الأحاديث الآتية:
– هو الشهر الذي أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، كما جاء في الحديث الشريف أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم – قال: (… وَهوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ).
– وهو الشهر الذي أُنزل فيه القرآن هدًى للناس وبينات من الهدى والفرقان، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
– وهو الشهر الذي فيه ليلة القدر التي وصفها الله تعالى بأنها خيرٌ من ألف شهر، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.
– ومن فضائل الصيام في هذا الشهر المبارك أن ثوابه لا يَتَقَيَّدُ بعددٍ معين، بل يُعطى فيه الصائم أجره بغير حساب، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: (قال الله: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ . وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ).
– وهو الشهر الذي لا تُرَدَّ فيه دعوة الصائم ، كما جاء في الحديث أن النبي –صلى الله عليه وسلم – قال: ( ثلاثة لا تُرَدُّ دعوتُهم : الصَّائمُ حتى يُفْطرَ ، والإمامُ العادلُ، ودعوةُ المظلومِ يَرفعُها اللهُ فوقَ الغَمامِ ويَفْتحُ لها أبوابَ السَّماءِ، ويقول الرَّبُّ: وَعِزَّتي لأنْصُرَنَّك ولو بَعْدَ حينٍ ).
شهر رمـضان… شهر العطاء والصدقات
إن الصدقة عمل جميل، حيث يتقرّب المؤمن إلى الله عزَّ وجلَّ، كما في قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}، كما أنها فريضة فرضها الله على القادرين، حيث قال -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ –رضي الله عنه- حين أرسله إلى اليمن: (…أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صدَقَةً في أَموَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلى فُقَرَائِهِمْ)، كما ورد أن الرّسول -صلّى الله عليه وسلم – قال: (حَصِنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكاةِ، وَدَاوَوْا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ)، وشهر رمضان الذي نعيش في ظلال أيامه المباركة هو شهر الصدقات والزكوات، ومن المعلوم أن الحسنة تُضاعف فيه كما جاء في الحديث الشريف: (… مَنْ تَقَرَّبَ فِيْهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيْضَةً فِيْمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيْهِ فَرِيْضَةً كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِيْنَ فَرِيْضَةً فِيْمَا سِوَاهُ…).
لذلك فإن كثيراً من المسلمين يغتنمون حلول هذا الشهر المبارك لإخراج زكاة أموالهم فيه، رغبة في تحصيل الأجر العظيم والثواب الكبير، ومن أشكال الصدقات والبرِّ
خصوصاً في مثل هذه الأيام المباركة مساعدة الأسر المحتاجة بتوفير الطعام والغذاء لهم من خلال السلّة الغذائية، وبشراء الملابس لهم من خلال مشروع كسوة العيد، ومساعدة
الضعفاء والفقراء واليتامى والثكالى والأرامل برسم البسمة
على شفاههم، وإدخال السرور على القلوب البائسة بما أفاء
الله عليك من النعم، فإنَّ منع الزّكاة سبب مباشر لغضب
الله، فقد جاء في الحديث: (وَلَمْ يَمْنَعُوا زكاةَ أموالهِمِ إلا
مُنِعُوا القطرَ من السماءِ، ولولا البهائِمُ لَمْ يُمْطَروا).
القــرآن في شــهر رمضــــان
لقد ارتبط القرآن المجيد بشهر رمضان، فشهر رمضان هو شهر القرآن، والقرآن كتاب الله الكريم الذي أنزله على محمد – صلى الله عليه وسلم – رحمة للعالمين وهداية للناس أجمعين، فقد ثبت في السنة الصحيحة أن سيدنا جبريل – عليه
الصلاة والسلام- كان يلقى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – في كل ليلة من ليالي الشهر الكريم فيتدارسان القرآن ، كما جاء في الحديث عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ-رضي الله عنهما-قَالَ:)كانَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أجْوَدَ النَّاسِ بالخَيْرِ، وكانَ أجْوَدَ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ عليه السَّلامُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ في رَمَضَانَ حتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عليه النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- القُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عليه السَّلامُ كانَ أجْوَدَ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ).
فهذا الشهر المبارك مناسبة عظيمة وفرصة سانحة لمدارسة
القرآن الكريم وتلاوته، وحثِّ الأبناء على حفظه والالتحاق بمراكزه، خصوصاً وأنهم سيستقبلون العطلة الصيفية بعد أيام قليلة من هذا الشهر المبارك، لذلك يجب علينا تشجيع أبنائنا على قراءة القرآن الكريم وَتَدَبُّره والعمل به، وتكريم حفظته وأهله؛ لأنه حبل الله المتين ،وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم.
قيام الليل في شهر رمضان
من المعلوم أن رسولنا –صلى الله عليه وسلم – كان يُكثر من الصلاة والتهجد في شهر رمضان المبارك، حيث كان –صلي الله عليه وسلم- يقوم ليله، فمن المعلوم أن صلاة التراويح شُرعت في شهر رمضان المبارك، وهي من أفضل العبادات التي يتقرب بها المسلم إلى خالقه في هذا الشهر المبارك .
وقد رَغَّب النبي –صلى الله عليه وسلم – في هذه الصلاة
وفيما يُشبهها من صلاة الليل في أحاديث كثيرة، حيث كان – صلى الله عليه وسلم – يُرغّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، أي من غير أن يأمرهم أمراً مؤكداً كما يأمر بأداء الفرائض، فيقول: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا
وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)، وقد تُوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم – والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرٍ من خلافة عمر- رضي الله عنهما -، حيث أخرج البخاري عن عبد الرحمن بن عبد
القاريّ أنه قال: (خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ
مُتَفَرِّقُونَ ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي
بِصَلاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ :إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاءِ عَلَى
قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ).