مكانــة العمـل في الإســلام/ يوسف جمعة سلامة
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(1).
جاء في كتاب مختصر تفسير ابن كثير للصابوني في تفسير الآية السابقة:[ {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم، ولهذا قال تعالى: {وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} فالسعي في السبب لا يُنافي التوكل، كما قال رسوله الله:” لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً“، فأثبت لها رواحاً وغدواً لطلب الرزق مع توكلها على الله عزَّ وجل، وهو المسخر المسير المسبب {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أي المرجع يوم القيامة، قال ابن عباس ومجاهد: مناكبها: أطرافها وفجاجها ونواحيها](2 ).
يوافق يوم الأربعاء القادم ذكرى يوم العمال العالمي، هذه الذكرى التي تأتي في الأول من شهر مايو ( أيار) من كل عام، فالعالم كله يحتفل بهذه الذكرى تكريماً للعامل، ولإحياء ذكرى ثورة العمال التي قامت في أمريكا عام 1887م أي في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد، حيث إن هذه الثورة كانت نتيجة للظلم الذي يعيشه العمال، والظروف السيئة المحيطة بهم، والأجر الزهيد الذي يتقاضونه، أما العمال في المجتمع الإسلامي فكانوا منصفين، وكانوا يحيون حياة كريمة طيبة.
الإسـلام يَحُثُّ على العمل
من المعلوم أن ديننا الإسلامي الحنيف هو دين العمل، يَحُثُّ عليه ويدعو المسلمين إليه، فلا بُدَّ من الحرص على العمل لبناء المجتمع -في شتى المجالات- وتحصيل الرزق وقوت الأهل والأبناء، وقد جاءت آيات القرآن الكريم تؤكد ذلك، منها:
قوله – سبحانه وتعالى-:{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(3)، وقوله – سبحانه وتعالى:{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}(4 ).
وقوله – سبحانه وتعالى – أيضاً:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(5).
كما حثَّت السنة النبوية الشريفة على العمل، وقد جاء ذلك في أحاديث عديدة منها: قوله- صلى الله عليه وسلم -:(مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبيَّ اللَّهِ دَاوُدَ- عَلَيْهِ السَّلام- كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ )(6)، وقوله- صلى الله عليه وسلم – : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ)(7)، وقوله – صلى الله عليه وسلم – أيضاً: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ)(8).
الإيمان والعمل الصالح متلازمان
من المعلوم أن ديننا الإسلامي يأمرنا بأن نطبق إيماننا عملاً وسلوكاً، حيث إن آيات القرآن الكريم التي تحثنا على الإيمان جاءت تحثنا بعده مباشرة على العمل، والآيات التي تذكر وصف الإيمان فإنها تذكر بعده العمل وتبين جزاء العاملين المخلصين، فالإيمان والعمل الصالح متلازمان، والمؤمن لا يعمل إلا صالحاً كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} (9)، ولكي يفوز المسلم بالجنة لا بدَّ أن يسلك سبيل الصلاح في تصرفاته وأعماله كلها، ومن الجدير بالذكر أن الإسلام قد صان حقوق العمال قبل أن تجعل الدول المعاصرة للعمال يومًا يحتفلون به، وقبل أن تقوم المنظمات الدولية بالمطالبة بحقوقهم، فقد قام ديننا الإسلامي بذلك قبل خمسة عشر قرناً حيث أعطى توجيهاته للأمة بضرورة العمل والحرص على صون حقوق العمال، فالإسلام يطالب أبناءه بالمحافظة على أوطانهم وتطوير مجتمعاتهم كي تكون أفضل المجتمعات وأجدر بالحياة وأقدر على النجاح، وكل ما يعين على ذلك فهو واجب، وكما يقول علماء الأصول: “مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، فالإسلام يحث على العمل وَيُرَغِّب فيه، كما قال رسولنا – صلى الله عليه وسلم-:( مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ).
ولقد اقتدى الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين- برسولهم الكريم- صلى الله عليه وسلم-، فلم يركنوا إلى الكسل أو يقعدوا عن طلب الرزق، بل كانوا جميعاً يعملون، فقد كان الصحابي الأول أبو بكر تاجر قماش، وكان الزبير بن العوام خياطاً،وكان عمرو بن العاص جزاراً –رضي الله عنهم أجمعين-، ومن الجدير بالذكر أن الإسلام كفل للعامل حقه كما جاء في الحديث أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:( أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ)(10)، وكفل أيضاً حق صاحب العمل كما جاء في الحديث:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلا أَنْ يُتْقِنَهُ) (11).
العمل شرف
إن العمل شرف مهما كان متواضعاً، فقد رُوِيَ أن أحد الولاة مَرَّ على عامل نظافة وهو يكنس الشوارع وينشد قائلاً:
وَأُكْرِمُ نفسي إنني إن أَهَنْتُها
وَحَقِّكَ لم تكرم على أحدٍ بعدي
فقال الوالي للعامل: وأيّ إكرامٍ هذا الذي أكرمتَ به نفسك وأنتَ تعمل كَنَّاساً؟! ، فقال له العامل بكل عِزّة: إنَّ عملي هذا أفضل مِنْ أَنْ أقفَ على أبواب اللئام أمثالك يعطونني أو يمنعونني.
نعم إن العمل شرف مهما كان متواضعاً، فالمجتمع بحاجة إلى كلِّ يَدٍ عاملة مخلصة، تخدم وطنها وَتُسْهم في بنائه، ورحم الله القائل:
النّاسُ للنّاسِ من بَدْوٍ وحاضرةٍ
بعضٌ لبعضٍ وإنْ لم يشعروا خَدَمُ
الإسلام يحـارب التسول
لقد حذّر ديننا الإسلامي الحنيف من انتشار ظاهرة التسول، فمن فتح على نفسه باب مسألة فتح الله عليه باب فقر، كما جاء في الحديث الشريف أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (... وَلا فَتَحَ عَبْدٌ بابَ مَسأَلَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بابَ فَقْرٍ )(12)، فالإسلام نهانا عن التسول وأمرنا بالابتعاد عنه، كما جاء في الحديث عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما -قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:( لا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ )(13).
إنَّ الدين الذي يقول لك:{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا}(14) ، هو الذي يقول لك:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }(15).
الدين الذي يقول لك:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (16) ، هو الذي يقول لك:{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ } (17) .
الدين الذي يقول لك:(إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَل اللَّهَ) (18)، هو الذي يقول لك:(مَنْ فَتَحَ على نفْسِه باباً من السؤال فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الْفَقْرِ)(19).
لقد أدرك المسلمون الأوائل قيمة العمل فانتشروا في الأرض وعمروها امتثالاً لأوامر ربهم سبحانه وتعالى وهدي نبيهم محمد – صلى الله عليه وسلم –، فالعمل في الإسلام واجب على كل مسلم ، حيث إن العمل شرف مهما كان متواضعاً، والمجتمع بحاجة إلى كلِّ يَدٍ عاملة مخلصة تخدم وطنها وَتُسْهم في بنائه، كما أن تمام العبادة يكون بالطاعة والعمل والسعي إلى اكتساب الرزق، وليس الانقطاع عن الدنيا وتركها لغيره، حتى يصبح هو في حاجة وغيره يعيش في خيرٍ ويُسر .
تحيـــة لكل يـدٍ تعمل، وندعو الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على أن نعمل، ويرزقنا الإخلاص في العمل والقبول له، إنه نعم المولى ونعم النصير .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش :
- سورة الملك الآية (15).
- مختصر تفسير ابن كثير للصابوني3/528-529.
- سورة التوبة الآية(105).
- سورة النور الآية (55).
- سورة الجمعة الآية(10).
- أخرجه البخاري.
- أخرجه الطبراني.
- أخرجه البخاري.
- سورة الكهف الآية (107).
10- ذكره السيوطي في الجامع الصغير.
11- ذكره السيوطي في الجامع الصغير.
12- أخرجه أحمد.
13- أخرجه البخاري.
14- سورة هود الآية (6).
15- سورة الملك الآية (15).
16- سورة الذاريات الآية(56).
17- سورة الجمعة الآية (10).
18- أخرجه الترمذي.
19- أخرجه الترمذي.