قضايا و آراء

منزلة العلم في الإسلام/ د. إبراهيم نويري

المتأمل في أوضاع الإنسانية وما بلغته من تقدّم وما أحرزته من منجزات، يوقن بأن تخلف الأمة الإسلامية في مجالات وميادين كثيرة، سببه التقصير في العلم وطلبه وفق منهج متكامل سليم . على الرغم من المنزلة المرموقة التي يحرزها العلم وأهله في الإسلام، وشدة احتفاء سلف هذه الأمة بالعلم والعلماء .

يقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ” أيها الناس  عليكم  بطلب العلم، فإن لله رداء محبة، فمن   طلب بابًا من العلم، ردّاه بردائه ذاك” . وسأل رجل ابن عباس عن الجهاد فقال له:” ألا أدلك على ما هو خير لك من الجهاد؟ تبني مسجدا تعلّم فيه القرآن، وسنن النبي صلى الله عليه وسلم، والفقه في الدين”.

وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه:” تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه مَن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل عن الدين، والنصير على السراء والضراء، والوزير عند الخلاء، ومنار سبيل  الجنة، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادةً وسادةً هُداة، أدلة في الخير تُقتفى آثارهم، وتُرمق  أفعالهم، وتُرغّب الملائكة في خلّتهم، وكلّ رطب ويابس يستغفر لهم، حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر       وأنعامه، والسماء ونجومها .. إلى أن قال- رضي الله عنه – : به يُطاع الله، وبه يُعبد، وبه يُمجّد، وبه يُتورع، وبه تُوصل الأرحام، وبه يُعرف الحلال والحرام، وهو إمام والعمل تابعه، يُلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء”.

وقال يحي بن معاذ:” العلماءُ أرحم بأمة محمد- صلى الله عليه وسلم –  من آبائهم وأمهاتهم، قيل: وكيف ذلك؟  قال: لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، وهم  يحفظونهم من نار الآخرة “.

وفي هذا السياق ذاته يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله ( ت 505 ه ):” الخاصيّة التي يتميّز بها الناسُ عن  سائر البهائم هي العلم،  فالإنسان إنسانٌ بما هو  شريف  لأجله، وليس ذلك بقوة شخصه أو جسمه، فإن الجمل أقوى  منه، ولا بعظمته فإن الفيل أعظم منه، ولا بشجاعته فإنّ السبع أشجع منه، ولا بأكله فإنّ الثور أوسع منه بطنا، ولا بسفاده فإن أخس العصافير أقوى على السفاد منه، بل لم  يُخلق إلاّ للعلم”( الإحياء باب العلم) .

وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله :” حاجة الإنسان للعلم، أكثر من حاجته إلى الطعام والشراب” .

ومن بركات العلم المتفق عليها أنّ نفعه متعدّ.. فلا يقتصر على صاحبه، بل  يتجاوزه إلى غيره من الناس، من كلّ مَن يسمعه، أو يقرِؤه، أو يدرسه؛ وقد يكون بينه وبينهم جبال ووهاد، وبحار وقفار…

فالعلم لا يعرف الحدود والقيود، ولا يعترف بالحواجز والسدود، وخاصة في عصرنا الذي ينشر فيه العلم المسموع بالإذاعة، والمرئي بالتلفاز في ثوان معدودة، بل في اللحظة  نفسها إلى المستمعين والمشاهدين في مساحات شاسعة من المعمورة، وينشر العلم المكتوب بواسطة الطباعة الحديثة في أيام، بل في ساعات معدودة أحيانا .

ومما رواه أبو أمامة الباهلي قال: ذُكر للنبي-  صلى الله عليه  وسلم – رجلان، أحدهما عالم والآخر عابد، فقال- صلى الله عليه وسلم- :” فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ” (رواه الترمذي وقال : حسن صحيح )  .

ومن فضل العلم على العبادة أنه لا ينقطع بانقطاع الحياة، ولا  يموت بموت أصحابه، فمن صلّى أو صام، أو زكّى أو حجّ أو اعتمر، فإن هذه العبادات لها مثوبتها الجزيلة عند الله تعالى، لكنها تنتهي بانتهاء أدائها والفراغ منها. أما العلم فإنّ أثره يظلّ باقيا ممتداً، ما دام في الناس مَن ينتفع به، مهما تطاولت السنون، وتعاقبت القرون .

لذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم:”  إنّ  مما  يلحق  المؤمن من عمله وحسناته بعد  موته: علما علّمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو  مصحفا ورّثه، أو مسجدا بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته” (رواه ابن ماجة بإسناد حسن، والبيهقي، كما رواه ابن خزيمة في صحيحه) .

وقال يحي بن أكثم: قال لي الرشيد يوما:” ما أنبل المراتب يا يحي؟ قلتُ: يا أمير المؤمنين أنبل المراتب ما أنت فيه. قال: أتعرف من هو خير مني؟ قلتُ: لا.. قال: لكني أعرفه.. إنه رجل يقول: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: هذا خير مني، لأن اسمه مقترن باسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهو لا يموت أبدا، ونحن نموت ونفنى، والعلماء باقون ما بقي الدهر”( ذكره ابن القيم في مفتاح دار السعادة ) .

فما أعظم أن تنتفع أمتنا الإسلامية بعلمائها، وما أجمل أن نربي أجيالنا وناشئتنا على توقير العلم وأهله، وتحبيبهم في تراث أمتهم ومنجزات الحضارة الإنسانية مما هو نافع ولا يتعارض مع أحكام الإسلام ومقاصده النبيلة حتى نقضي على سلبيات واقعنا، وننطلق في بناء حاضرنا ودعم مستقبلنا، فقوة الأمم تتجسّد في كسب العلم وتحويله إلى أعمال ومنجزات خيّرة نافعة.

ولله درّ الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه الذي يقول مفاخراً بأهل العلم :

ما الفضلُ إلا لأهلِ العلمِ إنّهمُ ** على الهُدى لمَن استــهدى أدلاّءُ
وقدر كلُّ امرئٍ ما كان يُحسنه ** والجاهلون لأهلِ العلمِ أعــداءُ
 فعِش بعلمٍ ولا تبــغِ به بـــدلاً ** فالناسُ موتى وأهلُ العلمِ أحياءُ

 

 

والله وليّ التوفيق .

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com