في رحاب السنة

مجالس السيرة النبوية الإسراء والمعراج (1)/ خير الدين هني

توطئة :

الإسراء والمعراج معجزة من معجزات الحق سبحانه، خرق بها قوانين الفيزياء الطبيعية التي ألفها الناس واعتادوها في حياتهم وممارساتهم السلوكية، فكانت هذه الحادثة المعجزة التي أكرم بها نبيه الكريم في أحلك فترات الدعوة وأشدها بلاء عليه، تدوي بصداها في أرجاء مكة وما حولها من أحياء العرب وقبائلها. وكانت قسوة قريش وإيذاء ثقيف له صلى الله عليه وسلم حين خرج إليهم يطلب العون قد أضنياه وأرهقاه وأثقلا عليه بكلكلهما إلى جانب ما أصابه من العنت والتعب ومشقة تبليغ الرسالة، من أجل ذلك أكرمه الحق سبحانه بتلك الرحلة الغريبة في أطوارها وأحداثها، فأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بفلسطين؛ خلافا للشيعة الذين يزعمون بأن المسجد الأقصى في السماء في رواية مكذوبة عن جعفر الصادق حسبما ذهب إليه المحققون من علماء السنة.

فكانت رحلة الإسراء والمعراج عبر عوالم غير مرئية، كرامة كبرى أكرمه بهما الباري سبحانه، على ما أصابه من ضيم واضطهاد ومكروه من قبل المشركين والسفهاء من الناس، فلقد كان صلى الله عليه وسلم، يضيق صدره من إعراض قريش عن دين الله، وكان يثقل عليه ما كان يكابده من أئمة الشرك في مكة وغيرها من القبائل التي عرض نفسه عليهم، قال الزهري‏:‏”وكان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم وعرض نفسه عليهم‏:‏ بنو عامر بن صَعْصَعَة، ومُحَارِب بن خَصَفَة، وفزارة، وغسان، ومرة، وحنيفة، وسليم، وعَبْس، وبنو نصر، وبنو البَكَّاء، وكِندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعُذْرَة، والحضارمة”، فلم يستجيبوا لدعوته، وبعضهم أغلظ له القول ونال منه كثقيف وبني حنيفة. فكانت هذه الأحداث الجسام التي كانت تترى عليه تثقل كاهله، ولم يكن في مقدور البشر أن يتحملوا ما تحمله وجابهه،  وزاده ثقلا وشعورا بالضيق وحشة فراق عمه أبي طالب وزوجه خديجة اللذين رُزئ بهما في عام واحد، وتركاه يجابه أهوال المشركين وحده من غير نصير ولا معين، رغم أن الحق سبحانه كان قد أعده عقليا ونفسيا لمواجهة ما قد يُلِمُّ به من خطوب.

وحينما تراكمت عليه أعباء الرسالة بثقلها ووحشة فراق النصيرين، كان لابد أن يسري عنه الحق بما يخفف عنه هذا الثقل، فأكرمه بهذه المعجزة الفريدة من نوعها، كيما يخفف عنه شدة ما أصابه من حزن وألم من صعوبة التبليغ والألم على فراق عمه وزوجه، ويبعث في نفسه الأمل والثقة في خالقه الذي وعده بالنصر المؤزر، وامتلاك مفاتيح كسرى وقيصر إن هو صبر على المكاره  والبلاء، لاسيما وأن الدعوة في مكة وما جاورها قد بلغت غايتها وقاربت النهاية، وهذا أوان الهجرة إلى أرض فسيحة مباركة قد حان أجلها، إذ تذهب الروايات المشهورة إلى أن الإسراء والمعراج كان في السابع والعشرين من رجب قبل الهجرة بسنة، خلافا لآراء أخرى خالفت هذه الرواية.

ثمّ إن هذه المعجزة الخارقة جاءت لتؤكد للمؤمنين الخلص نبوته صلى الله عليه وسلم، ولتكون ابتلاء حقيقيا لهم، فتمتحن قلوبهم امتحانا عسيرا، فَيُعرف الصادق المتثبت من حقيقة ما آمن به، من المتشكك المرتاب الذي لم يتجاوز الإسلام حلقه؛ ولتكون فتنة للذين كفروا كي يزدادوا كفرا وجحودا، وهذا ما حدث يقينا، إذ ارتجت مكة وأشيع فيها أن محمدًا، قد أخذ يحدث الناس بأمور غريبة لا يصدقها عقل.

ذلك أن قصة الإسراء والمعراج قصة حيرت العلماء، والمفسرين وكتاب السيرة عبر العصور، ومرد ذلك  يعود إلى الكيفية التي أسرى بها النبي صلى الله عليه وسلم، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وكذلك في الكيفية التي عرج بها إلى السماوات العلا؛ لأن النبي مخلوق بشري تخضع حياته لظروف البيئة الأرضية، وأي خروج عن تلك الأجواء يقتضي التغيير في تركيبته البشرية؛ حيث يمكن للتركيبة الجديدة أن تتلاءم مع الظروف المناخية للأجواء العليا التي اخترقها عبر عروجه إلى سدرة المنتهى؛ إذ ينتهي عندها علم الخلائق من الملائكة؛ لهذا السبب كان الخلاف كبيرا في شأن الكيفية التي عرج بها إلى السماوات العلا، التي هي من أسرار الغيب وأغواره، وهل عرج به جسديا وروحيا أم عرج به روحيا فقط؟

والذي أجمع عليه جمهور العلماء والسلف؛  أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد، ويذهب البعض الآخر من أصحاب مدرسة العقل إلى أنه كان بالروح فقط، وأيد هذا الرأي بعض المحدثين الذين قلدوا بعض القدامى في الاعتقاد بأن تصور هذه المعجزة الخارقة يخلص في كونها وقعت في رؤيـا أريها النبي في المنام، وبذلك لا يمكن اعتبارها معجزة خارقة.

المستشرقون ينفون معجزة الإسراء:

والحقيقة أن المستشرقيــن والمبشريــن إذا نفوا معجزة الإسراء والمعراج،  فليــس في نفيهم ما يدعو إلى الدهشة والغرابة؛ لأنهم نفوا عنه صلى الله عليه وسلم النبوة والرسالة، فاعتبروه مصلحا اجتماعيا، وصاحب مواهب فذة ونادرة؛ إذ كان يتميز بشخصية كاريزماتية جعلته يبرز على قومه ويسيطر عليهم بما كان يمتلكه من عبقرية في التوجيه و القيادة، ولقد وجدوا في هذه الصفة (صفة العبقرية) ما يمهد لهم الطريق بيسر؛ لإنكار النبوة وما يتصل بها من معجزات خارقة.

وبهذا الرأي تأثر بعض العلماء المسلمين المعاصرين ممن تغلب على تفكيرهم النزعة العقلية في تفسير الظواهر الغيبية؛ لأنهم وجدوا فيه ما يبرر دفاعهم عن النبي بالطرق العقلية الخالصة التي تتماشى -في زعمهم- مع المناهج العلمية الحديثة التي لا تأخذ في الحسبان إلا المسائل المعللة بالبراهين والأدلة، ونحن إذا جاز لنا أن نبدي رأينا في هذه المسألة والأمر عسير، إذ ليس من اليسير أن نفري فيها فريا معللا؛ ذلك لأن موضوع الإسراء والمعراج من المسائل الغيبية التي لا يمكن للعلم كشف حقائقها، مهما وضعت المناهج في ذلك؛ ثمّ إن مناهج البحث التي يراد اعتمادها في البرهنة على معجزة الإسراء والمعراج، ليس بوسعها أن تقدم لنا البرهان على حقيقة النبوة التي تحتل قمة الأسرار الغيبية، فنؤمن بها من غير استدلال علمي، فإذا كان عجزنا  بالبرهان على النبوة  قائما؛ فإن عجزنا  بالبرهان على معجزة الإسراء والمعراج قائم بذاته أيضا، لارتباطهما بحقيقة غيبية تتعلق بما وراء الطبيعة. وسنعود إلى هذه المسألة  بشيء من التحليل بعد حين.

وينبغي ألا يفوتنا أمر هذه المسألة –ههنا- ونحن بصدد مناسبة ما يذكره المستشرقون من مواهب النبي صلى الله عليه وسلم التي يستندون إليها لإنكار النبوة والمعجزات الحسية، ونحن كذلك فإنه لا يسعنا إلا أن نغتنم هذه الفرصة لنتناولها بشيء من التحليل والتعليل؛ والأمر هكذا يتبادر إلى أذهاننا سؤال بديهي وجوهري وهو، هل يستساغ عقلا أن يوصف النبي صلى الله عليه وسلم، بغير صفة الذكاء والنبوغ وهو نبي رسول؟ ثم هل يعقل أن يرسل نبي من الأنبياء إلى الناس ليبلغ رسالة السماء بثقلها وتكاليفها وهو محدود المواهب والملكات؟ فعبء الرسالة والنبوة بثقلهما وتكاليفهما وما يتبعهما من مشقة التبليغ والتوجيه والإرشاد، يقتضي أن يكون النبي المرسل متفوقا في مواهبه وقدراته عن غيره من الناس، حتى يكون في مستوى الرسالة والقيادة والقدوة.

فالاعتماد على تلك التبريرات غير الحكيمة، لإبطال النبوة والمعجزات الحسية لا تستقيم مناهجها؛ لأن الأساس الذي اعتمدوا عليه في التبرير غير منهجي، وكل ما كان غير منهجي كان لغوا وباطلا، وما بني على باطل فهو باطل. وتصويرهم لمواهب النبي صلى الله عليه وسلم، هو تصوير حقيقي لم يجانبوا فيه الحق؛ إلا أنهم تجاوزوا الحدود في المبالغة، كيما يستقيم لهم المنهج ويتسنى لهم إقناع الناس بأن ما أتى به النبي محمد، لم يخرج عن نطاق المواهب لا غير، والمراد من ذلك هو إبطال النبوة وصرفها عنه صلى الله عليه وسلم.

والدارس المتبصر الواعي بحقيقة الأشياء، ليس في مقدوره أن يتصور  نبيا رسولا بسيطا في تفكيره ومواهبه أن يتكيف مع واقع الرسالة ومواجهة أعبائها ومشقاتها بقدرات ذهنية محدودة. لذلك فإن الترويج لهذه المقولات  الخاطئة لغايات غير حكيمة، تجعلها تخرج عن نطاق المعقول الذي دأب على معرفته عقلاء الناس وحكمائهم.

فالمستشرقون حينما يصفون النبي محمدا، بخصوبة الخيال وتعدد المواهب والقدرات الخارقة؛ إنما يريدون نفي النبوة عنه؛ ليتم لهم بذلك إثبات أن ذلك الخيال الخصيب وتلك القدرات الخارقة في الذكاء، هي الصفات العقلية التي أهلته لتبوء المنـزلة الرفيعة في مكة؛ إذ اعتمد على خصوبة خياله  فأتي بكلام رفيع أسماه القرآن، فأعجز الناس على محاكاته، لبساطة عقولهم وضعف أخيلتهم وسذاجة تفكيرهم، وإذا سئلوا كيف أمكن لبيئة صحراوية بدائية وغارقة في الجهالة والأمية أن تنتج عبقريا فذّا كالنبي صلى الله عليه وسلم؟  قالوا: إن ذلك من فلتات الزمان يجود به الدهر في القليل النادر.

والذي يدحض رأيهم ويبطله؛ أن الزمان قد يجود بأناس عباقرة يفوقون معاصريهم في المواهب والنبوغ؛ ولكن الذي يعرفه الناس ، أن هؤلاء العباقرة لم ينشأوا في بيئات متحجرة يسودها الجهل والفقر والبساطة في التفكير والاجتماع والعمران؛ فالنضج العقلي وتفتق مواهب الإنسان منوطان بمستوى البيئة التي يعيش فيها هذا الإنسان، والإنتاج الفكري للعبقري يكون متعلقا  بالمستوى الثقافي والعلمي للمجتمع الذي درج فيه العبقري، وحين نمعن النظر في تطور حياة العباقرة الذين أثروا في التاريخ؛ فلا نلفى واحدا منهم تفتقت

لا عبقرية بدون تربية وتعليم:

عبقريته بدون تربية وتعليم، ففلاسفة الإغريق العظماء لم يُنشئوا فلسفتهم وآراءهم الفكرية؛ في بيئة خالية من الأجواء العلمية والثقافية، فالعبقرية الفلسفية والرياضياتية  لدى هؤلاء المفكرين، وما كانت تتميز به من عمق في النظر والتفكير، كانت مرتبطة بالوعي الثقافي الذي كانت تزخر به أثينا في ذلك الزمن.

ونظير هؤلاء، يجري أمره على كل المفكرين العباقرة في مختلف الأمم والأجناس عبر العصور، من أعلام الفكر الشرقي والغربي، فهؤلاء العباقرة الذين يتجاوز عددهم الحصر، لم تتفجر مواهبهم في بيئات جاهلة غير متعلمة، وبدون إطالة في هذه المسألة وتلخيصا لما تقدم، يمكن القول: إن تلك المقولات التي تجعل عبقرية النبي  وخصوبة خياله  وتعدد مواهبه، هي التي ألهمته فكرته الدينية بتعاليمها الفياضة، إنما هي مقولات حق أريد بها باطلا؛ ولا يراد منها إلاّ الكذب والتضليل والتدليس لغرض التشكيك.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com