الاستقصاء.. في ملحمة المسجد الأقصى/الدكتور عبد الرزاق قسوم
ويح إخواننا الفلسطينيين مما يكابدونه من أعدائهم الصهيونيين، ومما يعانونه من أشقائهم المستعربين! فأولئك يغتصبون أرضهم، ويمنعونهم فرضهم، وهؤلاء يحرّمون قرضهم، ويمرغون في التراب عرضهم.
وتتوالى حلقات الملحمة الفلسطينية، فتكشف كل يوم عن حلقة دامية في سلسلة معاناتها الراوية، فبعد حلقة غزة، المثخنة بالجراح، تأتي محنة المعذبين في السجون، وما يعانون من أتراح، وما إن تنتهي محنة الأمعاء الخاوية حتى تبرز رؤوس شياطين الذئاب العاوية، وها هي اليوم حلقة بيوت الله الخاوية من تكبيرات الجماهير الداوية، بمسرى نبينا وأنواره الضاوية.
فعلى شاشة القدس المنطفئة أنواره، يتجرأ العدو الصهيوني، باستعراض عضلاته، على الركع الساجدين، فيحرمهم من نعمة الركوع، ويذهب عنهم لحظة الخشوع، ويحول بينهم وبين صلاة الجمعة، بترويع الجموع، وكسر الضلوع، ونشر الإرهاب في أرجاء الربوع.
وما كان الجيش الصهيوني أن يتغول، ولا لإعلامه أن يتقول، ولا لكيانه أن يتدوّل، وقد عرفناه في الحروب نعامة، وفي ساعة الوغى غمامة، وجنده أجبن من أبي دُلامة. إنّ تغوّل الكيان الصهيوني، إنما يستمد سر تغوّله من سلبية الزمن العربي الرديء، الذي فيه استبوق الجمل، وغيِّب البطل، وزرعت الأرض العربية بتراب الذل والوحل. فهذا الصمت العربي المميت، وهذا التواطؤ الإسلامي المقيت، هو الذي زرع في شرايين الجندي الصهيوني الباردة، حرارة الجرأة الواردة، والشجاعة المؤقتة الوافدة، فجاء عدوان الكيان الصهيوني بشيطنة الأنظمة العربية والإسلامية، فاستأسد الجندي الصهيوني، أمام العابدين، العُزّل الآمنين، والعدوان على العلماء والأئمة الطاعنين.
وما كان هذا ليتم، لولا انبطاح الساسة، وكساح الملك والرئاسة، ووضع الجماهير تحت وطأة القمع والإذلال، والتعاسة.
إن المعركة –اليوم- بيننا وبين العدو الصهيوني في ساحة المسجد الأقصى، هي إثبات الحق التاريخي لنا، وإسقاط الحصرية الإسلامية عن مسجدنا، والمضي بعد ذلك إلى تطبيق التقسيم الزماني والمكاني، على الأقصى بين أهل الحق من المسلمين، وبين أدعياء الباطل من الصهيونيين.
وما كان لمثل هذه المعادلة أن تجد لها مكاناً في سالف الزمان والمكان، يوم كان للعرب جيش واحد، يذود عن الحِمى الفلسطيني بقيادة موحدّة، وتصميم على الاستشهاد شاهدة، فلما تضعضع الجمع، وتفرق الشمل، وبرزت الطائفية، والمذهبية، وحميّة الجاهلية، دبّ فينا الضعف، فأصبح كل بلد بما لديهم فرحين.
لقد خَبِرنا الغرب بعد طول زمان، فكشف فينا نقاط الضعف وهي خطيرة وكثيرة، ومنها، حب الزعامة، والاستئثار بالحكم دونما شهامة أو دعامة، وألهانا بالتكاثر، وبغضنا الوطن، وحب الغرباء، وتفشي الغرائزية بكل أصنافها، والاشتغال بالكرش وما تحت الكرش، بدل حماية الملك والعرش.
وتحت وابل نقاط الضعف هذه، تسلل إلينا الأعداء، فقسمونا شيعاً، وطوائف، وأحزاباً، فكانت قوة العدو من ضعفنا، وما ضعفنا إلا بسبب الفُرقة.
لا ينقصنا كعرب أو كمسلمين مال، فنحن أغنى البشرية، ننام على كنوز الأرض قاطبة، ولا يعوزنا الرجال، فنحن أكثر الشعوب شباباً في العالم، وأنكى المأساة أن أموالنا وكنوزنا، تهدر على غيرنا، من الغواني، إلى المغاني، ومن القداح إلى تجار السلاح، ومن موائد القمار إلى المزيفين من التجار.
بهذا تمكن أعداؤنا من ضربنا فُرادى وجماعات، وها نحن لا ندري لماذا نتحارب في الخليج وبين دولنا معاهدات؟ ولا لماذا نتقاتل في اليمن، أو في سوريا، أو في العراق، أو في مصر، أو في ليبيا، وبيننا أواصر أرحام، وأسر، وبنو أعمام؟
انتهى العدو من تفتيتنا، فأخذ يبني وحدته، وقوته، بعد تشتيتنا، وإن الذي حدث في القدس الشريف، وفي المسجد الأقصى لهو الدليل القاطع على صحة ما نقول.
فهل يجهل أيّ واحد منا، حاكما أو محكوما، أننا كنا أقوى تمسكا بالجغرافيا وبالتاريخ منذ سنين مضت؟ وهل يغيب عن عقل أو ضمير أحد منا، أننا بالجغرافيا أعنى، وبالتاريخ أقوى، فكلنا يعلم أنّ المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، هو الحلقة القدسية بين الأرض والسماء في تنزيل الأحكام، عن طريق الإسلام، فأين نحن من كل هذا؟
هل يجوز، لنا، ونحن المؤتمنون على الكتاب والسنة، أن نسلّم، بوعد موسى المفترى عليه، وبوعد بلفور المفتري على الحق والتاريخ؟
إنّ أيّ منصف للتاريخ، مهما اختلفت ديانته، وضعفت أو قويت قناعته، سوف يقرّ لنا كعرب، بحقنا التاريخي في فلسطين، وبحقنا الإسلامي في القدس، ذلك أنّ عروبة فلسطين عادلة يدعمها القانون، ويهودية فلسطين عابرة لا يسلّم بها المشرّعون، وإسلامية القدس حقيقة ثابتة يقرّها المتديّنون.
وما هو الحل إذن: في ضوء هذه التناقضات التي تعيشها أمتنا، والتي انعكست سلبياتها على أهلنا، في غزة، وفي القدس، وفي كامل أنحاء فلسطين؟
إنّ أهلنا يجودون في كل لحظة بدمائهم، وشبابهم، فيقدّموا القوافل تلو القوافل من الشهداء، والمقاومين والاستشهاديين، وكل ذلك أمر يسير في سبيل الغالية فلسطين، “ومن طلب الحسناء، لم يغلِه المهر”.
لعل ما يشفع لنا، في كل ما يحدث، وما نعانيه من محن أو فتن، هو أنّ العرق النابض الحي اليوم في أمتنا، هو العرق الفلسطيني، وطالما أنّ الفلسطيني المواجه لخط النار، مسلح بالعزم والحزم، وبقوة الإرادة، والإقدام على الشهادة، فإنّ القضية الفلسطينية لن تموت، وصفحتها لن تطوى، وفصولها لن تُمحى، إلا بعودة الحق إلى ذويه.
صحيح أننا سنُبتلى في أموالنا، وفي أنفسنا، وسنلقى من أعدائنا كل ألوان الابتلاء، ولكن شجرة الحريةـ لن تُسقى إلا بالدم، ولن تصان إلا بالعرق، وطالما العرق مكفول والدم مضمون، فإنّ النصر قادم إن شاء الله.
إنّ قضية فلسطين، هي أمانة ورثناها كابرا عن كابر وهي كما قال إمامنا محمد البشير الإبراهيمي طيب الله ثراه:
“أيها العرب ! إنّ فلسطين وديعة محمد عندنا، وأمانة عمر في ذمّتنا، وعهد للإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منا، ونحن عصبة، إنا إذن لخاسرون” [آثار الإمام الإبراهيمي، جـ 3 – ص 445].
ألا تبّاً لليهود، ما أغباهم ! فإذا كانوا يؤمنون بأنّ مرحلة التأزم التي تمر بها الأنظمة العربية، كفيلة، بتحقيق أحلامهم، إنهم لواهمون.
إنّ هذه المرحلة إن هي إلا أضعف الحلقات في تاريخ أمتنا، ومادمنا واعين بضعفنا وتصميمنا على تجاوزها، فإنها لا تعدو أن تكون سحابة صيف، وإنّ البقاء بعدها للأقوى والأفضل، والأحق.
وغدا تسوقهم الجموع غدا إلى قبر العدم
فليقدم الصهاينة إذن، على غلق المسجد، أو وضع البوابات الإلكترونية، أو منع المصلين من أداء عباداتهم، فذلك كله، سيصبح في حكم “الماضي البسيط”، وسيفتح الله الأبواب في القدس، وفي غزة، وفي الناصرة، وفي كل مكان: وسيتحقق وعد الله في اليهود {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}،[سورة البقرة الآية 27].
فيا أبناء شعبنا في فلسطين! ويا أبناء أمتنا العربية والإسلامية؛ إنّ ليل الاستعمار قصير مهما طال، وقد خبرناه، وإنّ دولة الظلم ساعة، مهما عتت وتعنتت وتجبّرت، وإنّ البقاء للأصلح دائما.
{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}،[سورة آل عمران – الآية 139].
{… وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}،[سورة الشعراء- الآية 227].