رحلة العروج من بيت المقدس إلى سدرة المنتهى/ محمد مكركب
كانت رحلة المعراج من بيت المقدس إلى سدرة المنتهى، ليلة أسري به عليه الصلاة والسلام، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. والمعراج لغة: الْمِصْعدُ والسُّلَّم، والمعراج اصطلاحا: ما عرج عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء. وجمع المعراج: معاريج. قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:[لما فرغت مما كان في بيت المقدس، أتي بالمعراج، ولم أر شيئا قط أحسن منه، وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر، فأصعدني صاحبي فيه، حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء، يقال له: باب الحفظة] ولما صعد النبي صلى الله عليه وسلم بالمعراج ووصل إلى سدرة المنتهى، ومع ذلك لم يرَ ربه سبحانه رؤية بصرية بشرية، وإنما رأى نوراً، (والرؤية الحقيقية ليست مستحيلة في حق خاتم النبيين، وغير مستبعدة في ذلك المقام الخاص) والمطلقات لا تمنع الخصوصيات، ويمكن أن الله جعله يراه بقلبه، وذلك قوله:﴿مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى﴾ وكلَّمه ربه ففرض عليه الخمس الصلوات، وقد سئل النبي قيل له صلى الله عليه وسلم: (أرأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه) فحجابه النور سبحانه لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه من نوره.
وإذا كان في رحلة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس من الآيات الكبرى هي البراق، فإن في رحلة العروج إلى السماء السابعة كانت وسيلة الصعود هي نفسها من الآيات الكبرى أعني( المعراج). والله تعالى أعلم وهو العليم الحكيم. قال الله تعالى:﴿وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾.
وأولى الآيات في الإسراء والمعراج: حادثة شق الصدر وغسل قلب النبي للإسراء والمعراج. فعن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم، حدثهم عن ليلة أسري به قال:[ بينما أنا في الحطيم، (والحطيم مكان الحجر وهو بالمسجد الحرام) مضطجعا إذ أتاني آت، وسمعته يقول: فشق ما بين هذه إلى هذه، (من ثغرة نحره إلى شعرته) فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوء إيمانا، فغسل قلبي، ثم حشي (إيمانا وحكمة) ثم أعيد، ثم أتيت بدابة (هي: البراق)] (البخاري.3887)
ومن المرائي التي رآها النبي عليه الصلاة والسلام في السماء. 1 ـ رأى الجنة والنار.
2 ـ رأى من ملكوت الله في عروجه وهو يرقى من سماء إلى سماء، في مَا لَمْ يَرَه ولم يَصِلْه غَيْرُه من بني آدم وهذا تكريم عظيم، لنبي عظيم بعث في أمة عظيمة جاءها برسالة عظيمة من الرب العظيم سبحانه.
3 ـ ورأى أبواب السموات وطبقاتها وما فيها من العجائب الكونية مما شاء الله سبحانه بين سماء وسماء.
4 ـ رأى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتحدث معهم، حيث شرفه الله بلقاء أبيه آدم وإخوانه الرسل والأنبياء ومساكنهم في السموات. ففي الحديث عند مسلم (162):(ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال] قال:[ فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى الله إلي ما أوحى، ففرض علي الصلوات]) (مسلم.كتاب الإيمان.162)
ومن مقاصد التذكير بمعجزة الإسراء والمعراج:
أولا: إثبات عالمية وإلزامية الرسالة الخاتمة رسالة القرآن للعالم أجمع.
ثانيا: تذكير أهل الكتاب خاصة وكل بني آدم عامة لكي لا يكون لهم حجة على الدعاة، أي: لكي لا يقولوا يوم القيامة ما علمنا عن محمد خاتم النبيين وما عرفناه.
ثالثا: لإيقاظ عقول الغافلين بأن المعجزة الكبرى للنبي محمد عليه الصلاة والسلام وهي القرآن الكريم كافية لكل ذي عقل سليم. وعندما يطلع على خبر معجزة الإسراء والمعراج يعلم أنه لو شاء الله العلي الحكيم أن يعطي من المعجزات المادية لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، لأعطاه ما لا يتخيله البشر.
5ـ ومن المرائي رأى جبريل عليه السلام في السماء على صورته الحقيقية، للمرة الثانية عن ابن مسعود، [أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح] (مسلم.174) وقال في معنى قول الله تعالى:﴿لقَدْ رأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾(النجم: 18) قال: «رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح».
وأوري مشاهد العصاة كيف يُعذبون ليكون في ذلك عبرة. من تلك المشاهد:
أولا: صِفة أكلةِ أموالِ اليتامى: قال: [ثم رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل، في أيديهم قطع من نار، يقذفونها في أفواههم، فتخرج من أدبارهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما] ومن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، الذين يختلسون من المال العام، من مال المسلمين، من أموال الشعب، ويبالغون في الإسراف والتبذير، بلا قصد ولا تدبير.﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ (النساء:10).
ورأى كيف يعذب أكلة الربا..
ثانيا: صفة الزناة : قال: ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم ثمين طيب، إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون السمين الطيب. قال: قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء، ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(النور:2).
ثالثا: رأى خطباء الفتنة ومصيرهم في العذاب. روي ابن جرير في تفسيره أن النبي صلى الله عليه وسلم [أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت. قال: ما هذا يا جبريل؟ قال هؤلاء خطباء الفتنة الذين يقولون ما لا يفعلون]. ورأى مشهد الذين يضيعون الأمانات ولا يؤدونها إلى أهلها، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم، [أتى على رجل جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها، فقال ما هذا يا جبريل؟ قال هذا الرجل من أمتك يكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يزيد على ذلك ولا يستطيع]. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم [أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخرة كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفت عنهم من ذلك شيء. فقال من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة](تفسير محمد ابن جرير الطبري.17/337).
وفي الخبر الذي سبق لنا في الرحلة الأرضية وعندما وصل النبي إلى بيت المقدس قال:[وأتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر فيه خمر، فأخذت اللبن فشربته، فقيل لي: هديت للفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك] وتكرر معنا في المعراج. والعبرة هي لماذا مازال كثير من بلدان المسلمين تباع فيها الخمور؟ وتدبر نص الحديث:[أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك] وتنتشر الخمور والمخدرات والتبرج ثم يسأل أهل القرار كيف يحدث الانحراف في الشباب؟ وكيف تحدث الأزمات وكيف يكرس التخلف والمصائب والموبقات ويفتقد الأمن والاستقرار. فقد كانت الخمر متفشّية في المجتمع الجاهلي، ولذلك كانت تكثر فيه الحروب والفساد﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾(المائدة:91) فهل الشيطان يوقع العداوة بين شاربي الخمر فحسب؟ الشيطان يوقع العداوة بين أبناء مجتمع يرضون فيه بالمنكر بينهم سواء مارسوه أم لا، لأن سكوت الصالحين عن المفسدين يدل في ظاهره على الرضا، والمسئولية تقع على من يعطي الرخصة لصناعة أو زراعة أو نقل أو بيع المحرمات ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾ والواجب شرعا على خليفة المسلمين أن ينهى عن الحرام. فالخمر لا يحل بيعها ولا شراؤها ولا التجارة فيها، ولا هبتها، ولا توريثها ولا شيء من هذه الأشياء أبدا. من أسباب انغلاق أبواب البركات وحدوث الأزمات انتشار الموبقات ومنها: الزنا، والخمر، والربا، والمكوس، والاختلاس، والظلم، قال الله تعالى:﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾(الصافات:22) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الأزواج: الأمثال والأشباه والنظائر، احشروا الزانية مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، والكافر مع الكافر، والفاسق مع الفاسق. مأخوذ من المزاوجة والمشاكلة. قال أبو هريرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن] قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن أن أبا بكر كان يحدثهم هؤلاء عن أبي هريرة، ثم يقول وكان أبو هريرة يلحق معهن:[ولا ينتهب نُهْبَة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن] (مسلم. كتاب الإيمان.57).
وفي رحلتي الإسراء والمعراج أعطي النبي عليه الصلاة والسلام، الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً إلا الْمُقْحِمَاتِ) يعني: الكبائر، أي الذنوب الكبيرة. وفي تفسير ابن كثير:(عن عبد الله بن مسعود قال:”لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها إذ يغشى السدرة ما يغشى قال فراش من ذهب، قال: وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئا من أمته المقحمات». قال: انفرد به مسلم (162)).