في رحاب الشريعة

برّ الوالديــن فـي الإســلام

بقلم الشيخ الدكتور/يوسف جمعة سلامة

خطيب المسجد الأقصى المبارك

وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق

www.yousefsalama.com

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد – صلى الله عليه وسلم -، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسار على دربهم إلى يوم الدين، أما بعد:

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}(1).

إن ديننا الإسلامي الحنيف يحثّ على برِّ الوالدين، فقد ذُكِرَ بِرُّ الوالدين والإحسان إليهما في ثماني سورٍ من القرآن الكريم، وكان ذلك في أساليب متنوعة من التعبير، منها: الإحسان إليهما بالقول والعمل، كما جاء في قوله تعالى:{وَبالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، ومعاشرتهما بالمعروف وإنْ كَانَا كافرين، كما جاء في قوله تعالى:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (2)، والحديث إليهما، كما جاء في قوله تعالى:{فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}، والتَّذَلل لهما، كما جاء في قوله تعالى:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}، والدعاء لهما، كما جاء في قوله تعالى:{وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.

قال الإمام القرطبي:(قال العلماء: فأحق الناس بعد الخالق المَنَّان بالشكر والإحسان والتزام البرِّ والطاعة له والإذعان، مَنْ قَرَنَ الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته وشكره بشكره، وهما الوالدان، فقال تعالى :{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ})(3).

مِنْ ثمرات برِّ الوالدين

إن برَّ الوالدين والإحسان إليهما من أعظم الأعمال وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، فَبِرُّ الوالدين فضله عظيم وأجره كبير عند الله سبحانه وتعالى؛ حيث إنه يُكَفِّر الذنوب ويكون سبباً في مغفرتها، كما جاء في الحديث عَنْ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-،  أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:( يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ قَالَ: لا، قَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَبِرَّهَا)(4) .

ومن ثمرات برِّ الوالدين: طول العمر وزيادة الرزق، والبركة فيهما، كما جاء في الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه-، قَالَ:( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:  مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَيُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)(5) .

الحـثّ عـلى بـرِّ الوالديـن والتحذيـر من عقوقهمـا

* برُّ الوالدين من أعظم الأعمال:

عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه- قال:(سألتُ النَّبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ:” الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا“، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ:” ثُمَّ برُّ الْوَالِدَيْنِ“، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبيلِ اللَّهِ)(6 ).

* أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟:

عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال:( أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنْ اللَّهِ، قَالَ:” فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟”، قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلاهُمَا، قَالَ:” فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنْ اللَّهِ؟”، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:” فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا“( 7)، وفي رواية:(جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ:” أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟”، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:” فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ“)(8).

* لا يسبّ الرجل والديه:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ 🙁 قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :” إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ“، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ:” يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ“)(9).

* عقوق الوالدين من الكبائر:

عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ  عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:( إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ)(10).

وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ:( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:” أَلا أُنَبِّئُكُمْ بأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟” قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قال ثلاثاً: قَالَ:” الإِشْرَاكُ باللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ“، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ:” أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ”، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ لا يَسْكُتُ)(11).

لذلك يجب على المسلم أن يكون بارًّا بوالديه مُحْسِناً إليهما، لقوله – صلى الله عليه وسلم –:( بَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ، وَعِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ)(12).

أمثـلة مُشْـرقة في بـرِّ الوالديــن

عندما نتأمل أحوال الصالحين والعلماء والأئمة الذين تَربَّوْا في مدرسة النبوة، نجدْ أنهم كانوا نجوماً تتلألأ في الهداية، فقد ضربوا لنا أروع الأمثلة في البرّ بالوالدين واحترامهما والعطف عليهما وحُسْن مصاحبتهما، امتثالاً لقوله سبحانه وتعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.

ومن هؤلاء العلماء والأئمة على سبيل المثال لا الحصر:

* الإمام ابن سيرين- رحمه الله -: الذي  بلغ من بِرّه بوالدته أن قال: والله ما ارتقيتُ سطحَ بيتٍ ووالدتي في البيت، لئلا أرتفع عليها!!،  وكان يُقدِّم لها الطعام فلا يبدأ حتى تبدأَ هي، وكان لا يأكل من الإناء الذي كانت تأكل منه أُمُّه، فقيل له في ذلك، فقال: أخشى أن تقع عينها على شيء من الطعام فآخذه فأكون عاقًّا.

* الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله-: جعل من نفسه – وهو إمام أهل السنَّة والجماعة – خادماً لوالدته، يغسل ثيابها ويصنع طعامها ويقوم على حاجتها؛ لأنه أخرج حديثاً:(عَنْ معاويةَ بنِ جاهمةَ-أَنَّ جَاهِمَةَ- جَاءَ إِلَى رسولِ الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَدْتُ الغَزْوَ وجِئْتُكَ أَسْتَشِيرُكَ؟ فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، فقَالَ: الْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلِهَا)(13).

نتعرف من الحديث السابق على مكانة الأم في الإسلام، حيث جعل النبي– صلى الله عليه وسلم – الجنة عند رِجْلِها، وإذا كانت الجنة عند رِجْلِها، فلن يستطيع أحدٌ دخول الجنة إلا عن طريق برِّه بأُمّه.

نــداء إلـى الأبنــاء

لقد أحببتُ في هذا المقام أن أُذَكِّر الأبناء بضرورة برِّ الوالدين  وإكرامهما والحرص على طاعتهما، وطلب الخير لهما مهما كانت الظروف، فالجنة تحت أقدام الأمهات، ورضا الله من رضا الوالدين وَسُخْطه من سُخْطهما، وكما تدين تدان، فهل عَقِلَ الأبناء ذلك؟ كي يفوزوا برضا الله وطاعته في الدنيا وبجنة عرضها السموات والأرض يوم القيامة، فَبَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ، وَعِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ، فباب الرحمة وباب التوبة -والحمد لله – مفتوح دائماً كما جاء في الحديث:( إنّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ  تَطْلُع الشمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا)(14).

فيا أيها الأبناء: اتقوا الله في آبائكم وأمهاتكم واحرصوا على بِرّهم ورعايتهم، وأداء الحقّ إليهم، فلعلكم أن يطول بكم العمر ويكون لكم ولد، فما ترجون من أبنائكم غداً فاصنعوه اليوم مع آبائكم وأمهاتكم، فإنه دَيْنٌ ولا بُدَّ للدَّيْن من وفاء، فمن أراد النجاح والتوفيق في دنياه والنجاة والسعادة عند لقاء الله، فليبرّ والديه، ويُنفِّذ أوامرهما، وَيُؤَدِّ حقوقهما، ويفعل كلَّ ما يرضيهما، ويبتعد عن كلِّ ما يغضبهما:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(15).

نسأل الله أن يحفظنا ووالدينا وأبناءنا والمسلمين من كل سوء

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الهوامش:

  • سورة الإسراء الآيتان (23-24).
  • سورة لقمان الآية (15).

3- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي5/182-183.

4- أخرجه الترمذي.

5- أخرجه أحمد.

6- أخرجه البخاري.

7- أخرجه مسلم.

8- أخرجه البخاري.

9- أخرجه البخاري.

10- أخرجه البخاري.

11- أخرجه البخاري.

12- أخرجه الطبراني والحاكم.

13- أخرجه أحمد.

14- أخرجه مسلم.

15- سورة الأحقاف الآية (15).

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com