قراءة عادية في “حراك …” غير عادي/ حسن خليفة
أيّا كانت مآلات “الحراك ” التاريخي السلمي الكبير والشامل والقويّ الذي عبّر من خلاله الشعب الجزائري في معظمه عن “رأيه ” وقناعاته، والذي ترصدُه وتترصّده دوائر ومخابر كثيرة هنا وهناك،وتحاول أن تقرأه من منطلق مصالحها وغاياتها ومرادها في التحكّم في الجزائر والاستفادة من خيراتها وميراثها وكل ما فيها ..إلى أبعد أجل ممكن ..
أقول بقطع النظر عن المآلات ، والله تبارك وتعالى هو الحافظ ، فإن هناك ما يستدعي التوقّف عنده ، في محاولة للاستقراء والاستنتاج ومعرفة ما قاله و يقوله هذا الحراك الذي جاء بعد سنوات طويلة من الهمود والسكون واللامبالاة وضعف الاهتمام بالشأن العام …ومن هنا نبدأ ..أي من عودة الاهتمام بالشأن العام.
أولا: لعل أهم شيء يستدعي التوقّف هو عود ة الروح إلى الإنسان الجزائري خاصة فئات الشباب ؛ من حيث الاهتمام بالشأن العام (السياسة بمعناها العلمي الحقيقي )، بكل ما يعنيه ذلك ؛ خاصة وقد اجتهد الماكرون ـ على مدار عقود ـ في “تصحير ” كل شيء تقريبا، بما في ذلك دفع الناس إلى البعد عن الشأن العام، وتحفيزهم بطرق شتى لعدم الانخراط في هذا الشأن كسياسة أو كطريقة تسيير، أو بأي صورة أخرى من الصور،مما جعل الساحة تفرغ ـ فقط ـ لهؤلاء الذين كانوا يعرفون على الوجه الصحيح كيف يجسدون أحلامهم ويحققون أهدافهم في تكديس الريوع والاستيلاء على مزيد من مساحات النفوذ والتسلّط والولوج إلى مواقع التحكم، وأنماطهم وأشكالهم ووجوههم معروفة عند الناس جميعا.
ثانيا: ثبتَ بالبرهان الميداني الواضح خطأ الكثير من القناعات التي نبتت في كثير من الأذهان والعقول ومنها أن طبقات كثيرة من الشباب الجزائري “ضائع” ، وتقريبا لا أمل فيه أو منه ؛ لانخراطه في بعض الأمور غير ذات الصلة بالمسائل الجادة ، كالرياضة ، واللهو بكل أنواعه، بل وانزلاق البعض منه ـ وربما نسب كبيرة ـ في وهاد المخدرات والمهلوسات وما أشبه من أنواع “التخدير”والتعقيم …وليس ذلك بغريب ، وأخبار المخدرات بأنواعها والقناطير المقنطرة مما “يُمسك” منها ليس ببعيد(قضية 701 كيلو كوكايين مجرد مثال )، وكذلك الأخبار عن طرق الترويج والتسويق المتعددة ،وهو مما تكشف عنه الصحافة باستمرار، وقد وصلت المخدّرات إلى أسوار المؤسسات التعليمية الابتدائية …وليست الأيدي الخبيثة أيضا بريئة من هذا الإجرام الآثم الذي يروّج للشرور والآثام ويعمل على غرسها في أوساط الكتل الحيّة في مجتمعنا وهي كتل الشباب وشرائحه من الفتيان إلى من تجاوزت أعمارهم الثلاثين …وملفات المخدّرات ترويجا وتوزيعا وتسويقا وتعفينا وتعقيما لمجتمعنا من الملفات التي يجب أن تُطرح بكل تفاصيلها في المستقبل لبيان كل الأسرار التي تخفيها هذه الآفة الخطيرة ، بل هذه الجريمة الشنعاء ….وليس من الغريب أن نجد بعض ما يهزّ الضمير الوطني بشأنها، عندما نعرفُ أن هناك مخططات رهيبة لـ”قتل”المجتمع بوساطة هذه السموم مخدرات ومهلوسات وسواها من الشرور القاتلة …
لقد أبان هذا الحراك بشكل واضح أنه بالرغم من كل ذلك فإن هذه الكتل من الشباب على وعي متقدم جدا فيما يتصل بحياتها ومستقبلها ،ومعرفتها بحقائق الأمور في الساحة الوطنية …ولقد شدّني أن الكثير من المتابعين والمهتمين والمدوّنين كتبوا يعترفون بخطئهم في فهم الشباب وبأنهم لم يكونوا يدركون أن شبابنا على هذا النحو الجميل من الفهم والوعي والإدراك لواقعهم وفهم ما يجري ..
ثالثا : يلتصق بهذا الأمر أيضا فيما له علاقة بالوعي كذلك ، سيرورة تلك المسيرات الحاشدة الطويلة الكبيرة بشكل سلس مرن ،وعدم وقوع أي شيء مما يعكّر صفوها وسلميتها وحضاريتها ، فهي كما قال عنها بعض الملاحظين “تعبير راق متحضر..بل هيّ نيتجة رائعة لما وصل إليه وعيُ الشباب الجزائري الذي قدّم به نفسه إلى الدنيا كلها”…وإن من تابع وشاهد ورأى ـ ولو كملاحظ ـ يمكن له أن يعرف ملامح كل ذلك التحضر والرقيّ المعبّر عنه في كل المدن وكل الساحات وكل الجهات من وطننا الكبير ..وليس من السهل أن يخرج الملايين ، في كل الأنحاء شرقا وغربا ،شمالا وجنوبا…ومرات متعددة دون حدوث أي سوء، ولا يدلّ ذلك إلا على فهم ووعي وتحضّر ويقظة ..نتحدث عن الاحتجاجات السابقة في الجمعتين وفي الأيام الأخرى للمهنيين وغيرهم .
رابعا: لعله مما يستوجب التوقّف أيضا ، وربما بشكل أقوى وأعمق …التعرّف إلى الأهداف الكبيرة العميقة البعيدة المدى، في مطالبات الشارع الجزائري ومنه تلك الشرائح الشبانية الكبيرة ؛حيث إنها عبّرت عن إرادتها ورغبتها في أن تعيش حياة أكرم وأفضل ، وأن تُحكم ممن هم أفضل وأنقى وأقدر ..ولم تكن مجموع الشعارات المرفوعة ، أو تلك المعبّر عنها باللسان سوى تكثيف وتجسيد لتلك المطالب الكبيرة التي يمكن أن نعبّر عنها بما يلي: “الجزائر قارة كبيرة ..وكل ما فيها يدل ّ على أنه يجب أن تكون أفضل مما هي عليه ..ومشكلتها الأساسية في نمط التسيير وأسلوب الحكم الذي مرّ عليها عقودا متطاولة ، وقد أقبرها وأنهكها وأهلكها من حكموها بدل تنميتها وتقويتها وتحقيق نهضتها الكبيرة السامقة ، لقد أركسوها في الحضيض ، فيما مقامها ـ في الأصل ـ في الصدارة وفي الأعلى .
.إنه لاينقص الجزائر شيء عن أن تكون مثل سنغافورة وماليزيا وتركيا واسبانيا وغيرها من الدول والمجتمعات الناهضة القوية المزدهرة ..فيها كل شيء، فقط مشكلتها في النخب التي حكمت فأساءت وأفسدت ..ولذلك كان من المطالب “خطيونا” الخ ما سجلته الشعارات التي تدفع كلها إلى أهمية فهم هذه الرسالة الواضحة. أنتم لم تنجزوا المطلوب ،ولم تخدموا البلد ..بل خدمتم أنفسكم ومصالحكم وحاشياتكم ..وآن لذلك أن ينتهي.
خامسا: لعلها المرة الأولى التي يكون فيه التعبير عن رأي مجتمع ما بهذا الشكل المتفرّد ، فلا لون ، ولا رائحة ،ولا لافتة لهذا الحراك …الشعب ـ بكل فئاته ـ هو صاحب هذا الأمر، أو صاحب هذه الرسالة يوجهها لمن يحكمونه بالطريقة المناسبة ، وقد بحّ صوته من الكلام والإبلاغ والتعبيروإيصال الرسائل ..بكل الطرق (الكتابة ـ الكلام ـ الرسائل ـ التصريحات التلفزية ـ الشكاوى ـ المعارف ـ…) نعم لقد تحدث المجتمع على مدار سنوات عن همومه وآلامه وآماله أيضا، ولم يجد الكثير من الاستجابة من مسؤوليه، مما يضطره إلى قطع الطرق والاحتجاجات العنيفة بين وقت وآخر ..لذلك تبدو الرسالة بليغة وواضحة تماما ..
سادسا : السؤال : هل يتبلّغّها من أُرسلت إليه ؟ وهل يفهمها على الوجه الحضاري الصحيح المجدي النافع ..؟ ذلك هو السؤال؟
وللحديث بقية إن شاء الله ..