في رحاب السنة

المعجزات الحسية/ خير الدين هني

أما معجزة القرآن الكريم فكانوا متفقين عليها جميعا، ولم يقع فيها خلاف إذ يعتبرون القرآن المعجزة العقلية الدائمة التي تحدّت الزمان والمكان، والمعنى واللفظ، وأفحم كل من سولت له نفسه أن يحاكيه، في طريقة تركيبه، أو بليغ تأليفه، أو بديع معناه ومحتواه، أو في دلالاته وتنوّع مضامينه وأغراضه، أو بإخباره بما كان وبما يكون.. وهو المعجزة الباقية الخالدة خلود حياة الناس في الأرض إلى أن يأتي الله بأمره..

وهو معجزة عقلية تتناسب مع الأزمنة والعصور؛ إلا أنهم وقفوا موقف الاختلاف في شأن المعجزات الحسية، وهي التي وردت في كتب السير والمغازي، ولاسيما في كتاب (دلائل النوة للبيهقي). أيد الله سبحانه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نفاها أو حاول نفيها، أو الانتقاص من شأنها بعض العلماء  ممن غلبت عليهم النزعة العقلية، رغم أن آراء بعضهم كان فيها شيء من التلاعب بالألفاظ والعبارات؛ فتراهم يلمحون أكثر مما يصرحون، ذلك لأن آراءهم جاءت متأثرة بالأبحاث العقلية، من علم الكلام والفلسفة التي ظهرت على أيدي المتكلمين وفلاسفة الإسلام في مـذاهبهم المعروفـة، فاعتبروا المعجزات الحسية مقللة من كون الإسلام دينا عقليا يثبته القرآن الكريم.

ولعل الكثير من هؤلاء العلماء معذورون في ذلك؛ لأنهم كانوا يجابهون طغيان الموجات الإلحادية التي تبناها الزنادقة والشعوبيون والمتشكّكة والمرتدون وضعاف الإيمان، ولقد زاد من انتشار هذا الطغيان في عصرنا الحديث تقدم العلوم التجريبية، والأبحاث الفكرية التي طغى عليها التفكير المادي في تفسير ظواهر الطبيعة، وبخاصة الأبحاث التي كانت تعتبر من المعتقدات الدينية المقدسة؛ غير أن الفرق بين الأبحاث التجريبية، والمعجزات يكمن في أن الأولى تخضع للملاحظة والتجربة والبرهان المادي، وهي تخضع لمناهج عمل دقيقة يضعها العقل، ويرتب فروضها، ويستنتج حقائقها وفق خطة منهجية دقيقة.

أما المعجزات (الخوارق)، فهي مسألة غيبية مرتبطة بماهية ما وراء المادة، وهي حين ظهورها تخرق قانون الطبيعة من غير فروض ولا مقدمات، وقد رآها الناس المعاصرون عيانا؛ خلافا للتجارب العلمية التي تجري على عينات من الطبيعة، تفحص مادتها وخصائصها، وطرق تفاعلها، ولعل الذي يزيد من تعقيد الإيمان بالمعجزات أنها لم تشاهد إلا من قبل المعاصرين للنبي صاحب المعجزة والذين حضروا وشاهدوا وقائعها؛ لذلك أصبح من العسير على العلم أن يقيم البرهان على صحتها حسب رأي الفريق المنكر لها، ما يجعل الإسلام محل اتهام مثل بقية الأديان الأخرى التي ألصقت بها الكثير من الخرافات والأساطير؛ حسب زعمهم.

من أجل ذلك، حاول هؤلاء العلماء أن يقتصروا على إثبات النبوة الخاتمة بالقرآن الكريم وحده؛ لأنه شاهد عيان ما زال باقيا محفوظا كما نزل على رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد اجتهد البعض في إبراز إعجازه في تآليف مختلفة المناهج.

ومن العلماء المحدثين الذين سلكوا هذا الاتجاه، ودافعوا عنه دفاعا قويا بعض علماء المدرسة الإصلاحية؛ (مدرسة محمد عبده) ممن غلبت عليهم النزعة العقلية، ومجدوا العقل وسموا به إلى مراتب قد تفوق حدوده.

إلا أنه يمكن الإشارة إلى أن هؤلاء العلماء الذين ذهبوا هذا المذهب، لم يقع ذلك منهم؛ لأنهم أوهنوا من قيمة المنقول والطعن فيه، وإنما كان قصدهم من ذلك هو الدفاع عن الإسلام بالبرهان العقلي الذي يدحض افتراءات الملاحدة والشعوبيين والمتشكّكة، والمرتدين من الشيوعيين، والدهريين والماديين والعلمانيين..وغيرهم.

إذ أن معالجة المشكلات المعقدة، المرتبطة بمسائل الدين والغيب الموجهة إلى فئات من المتعلمين الشباب، تقتضي من الوجهة الفقهية استخدام مناهج ذكية في ترتيب أولويات النقاش والحوار، مع استخدام مناهج توفيقية منسجمة ومتوازنة مع روح الشريعة؛ بما تجعلهم يقبلون ولا ينفرون، ويستجيبون ولا يرفضون..

لقد ساء هؤلاء العلماء، ما آلت إليه أوضاع المسلمين من انحطاط في مدارك التفكير، والفهم السيئ لحقائق الإسلام الثابتة، ومقاصده وأغراضه البعيدة؛ وذلك بسبب ما تعرضت له بلدان المسلمين من سياسة استعمارية تجهيلية، واستبداد الحكام ومحاربتهم لفكرة تعميم تعليم العلوم الشرعية في المؤسسات الرسمية، مما ترتب عليه انعدام شبه كلي لتعليم العلوم الشرعية بطرق نظامية، مما جعل المسلمين حيثما وجدوا، يضعف مستواهم العلمي في هذه الحقول، فأصبحوا يخلطون بين حقائق الإسلام الصحيحة، وبين مبتدعات العصور ومستحدثاتها، والتي جعل منها المستشرقون والمبشرون والمارقون مادة دسمة استغلوها  للطعن في الإسلام والمسلمين.

لذلك حاول هؤلاء العلماء إغفال هذا الجانب من المعجزات الحسية لرسول الله عليه وسلم، لأنهم اعتقدوا بأن البرهان على ذلك بمناهج العصر يتعسر تحقيقه؛ لإقناع الناس بالدليل العقلي على إثبات هذه المعجزات الخارقة؛ لاسيما وهم في دفاعهم عن الإسلام لم يكونوا يتوخون المسلمين المهزوزة عقائدهم فحسب، وإنما صاروا يواجهون عموم الناس من الملة الإسلامية وغيرها، ممن طغى على عقولهم التوجه العقلاني ذو النزعة المادية.

فهم يقولون: ليس من اليسير أن تقنع شابا مسلما، متشبعا بالثقافة الغربية ذات النزعة المادية؛ بأن النبي صلى الله عليه وسلم، بزق في بئر ناضبة مياهها فتفجرت بالمياه المتدفّقة، أو أنه كلّم حيوانا أبكم، أو أنه ناول مقاتلا مسلما عودا خشبيا فاستحال سيفا بتارا في يده، أو أنه أطعم العدد الكثير من المقاتلين بالطعام اليسير الذي لا يكفي حاجة الفرد أو الفردين؛ مثلما كان في غزوة الأحزاب، أو أنّه نادى شجرة ثابتة الجذور في الأرض فدنت منه، إلى غير ذلك مما هو مَرْويٌّ في باب المعجزات من سيرته صلى الله عليه وسلم.

ومادمت قد أسهبت في الحديث عن المسألة في هذه المقدمة الطويلة؛ فإنه يجدر بي أن أعود إلى جوهر الموضوع، مستهلا مناقشته بطرح مجموعة من الأسئلة المثيرة التي من خلالها يمكن أن نكشف حقيقة العلاقة بين النبوة والمعجزات الحسية، ولكي نقف على معرفة وجه الحقيقة فيما ذهبوا إليه، أريد أن أبحث الموضوع بحثا عقليا، كيما يكون منهجي مسايرا لمناهج بعض أصحاب المدرسة العقلية، ممن حاولوا نفي المعجزات الحسية؛ محاولا إثباتها والاستدلال على وقوعها، بما أتيح لي من نظر دقيق، مستندا على العلاقات المنطقية في تحليل ظواهر المعجزات الحسية، مستعملا التناظر والتقابل بين الظواهر من طريق أسئلة مركزة ودقيقة.

ولذلك أقول: إن الفرضية التي يمكن أن ننطلق منها لمناقشة هذه المسألة، هي: إن النبوة ذاتها تعتبر معجزة خارقة؛ بل هي أم المعجزات كلها! إذ لا يمكن الاستدلال على صحة وقوعها، بما يقتضيه البرهان العلمي الذي يخضع الظاهرة إلى الملاحظة والتجربة  والاستنتاج؛ إذ أن أمرها يتعلق بعالم ما وراء المادة، أي: بعالم الملكوت الأعلى، الذي هو خارج عن نطاق المادة والمكان والزمان، ومع ذلك فنحن نؤمن بها ونصدق بحقيقتها وماهيتها.

فنحن نؤمن بالنبوة، وليس لنا خيار آخر أفضل مما قاله العلماء، من أن حاجة الناس الماسة إلى العودة بهم إلى طريق الهدى والرشاد تقتضي إرسال الرسل إليهم من بني جنسهم؛ ليعيدوهم إلى الفطرة السليمة التي دنست معالمها خطوب الزمان وأضاليل البشر.

وإذا كانت آراء العلماء المنكرين للمعجزات الحسية ليست إلا استنتاجات شخصية لا ترقى إلى مستوى البرهان العقلي الذي يخضع للمشاهدة والتجربة، أو إلى درجة اليقين الذي تبرهن عليه الحسابات الرياضية والتجارب العلمية حتى يمكن الأخذ بها، ومن هنا يأتي التقابل بين البرهانين متناظرين ومتماثلين في كون كل منهما عجز عن البرهان عن إثبات ما يريده الفريق المؤمن بالمعجزات الحسية، وبين الفريق الذي لا يؤمن بها سواء بسواء.

وإذا كان العلم يعجز بمناهجه المختلفة على إثبات عدم وجود عالم ما وراء المادة، -كما قال سارتر وهو من أكابر الملاحدة الماديين- فإن البرهان على وجوده عقلا أقرب إلى الحقيقة منه إلى النفي؛ لأن دقة نظام العناية والاختراع لنظام الكون -كما قال ابن رشد- يعطي لنا البرهان على أن الحياة لم تخلق عبثا وصدفة، ولم يكن وجودها عبثا نظمته المادة العمياء من طريق تراكم غير منظم؛ لأن التضارب بين النقيضين هو البرهان على أن ما وراء المادة عقل كبير دبر أمر هذه الحياة، فالمادة العمياء تخضع للفوضى العمياء، والفوضى نقيضها الدقة والنظام، والحياة بما هي عليه نظام متناهٍ في دقة الصنع والاختراع، ومبدأ التسلسل في الخلق الذي يتبادر للذهن محال، لأنه يقتضي تكرار الخلق بدون نهاية، بوجود حياتين إحداهما قائمة على الأخرى، إحداهما علة والأخرى معلولة، وهي لا تنتهي عند زمن معين، وهذا يتنافى مع المبدأين العقليين، إذ أن الموجودات إما أن تكون ممكنة الوجود بغيرها، مثل سائر الموجودات، وإما أن تكون واجبة الوجود بذاتها، وهي الصفة اللازمة التي تليق بالخالق تبارك وتعالى.

وعلى هذا فإنني أنطلق من فرضيتي التي أزعم فيها أن النبوة ذاتها؛ أكبر معجزة خارقة لنظام الطبيعة، وليس يسيرا أن نبرهن عليها بما يقنع العقل الناقد، ويروي غلّته؛ لذلك اعتبرها من المسلمات التي يؤمن بها العقل ويعترف بها رغم أنه لا يدرك طريقة الاستدلال عليها؛ لأن العقل السليم يدرك عبر مدارك التفكير المركوزة فيه طبيعيا بأن النبوة جزء من نظام مرتب وضعته العناية الإلهية في علاقة كونية رتبتها إرادة عليا، برهنت عليها الكتب المقدسة والمعجزات الحسية.

ولكي ندرك حقيقة النبوة ومراتبها العليا، وصعوبة الاستدلال عليها بالمناهج العقلية، يمكن استهلال الموضوع بطرح مجموعة من الأسئلة التي تدل على بالغ الصعوبة في إدراك حقيقتها، وهذا بعضها: إذ كيف نستطيع أن نبرهن على الطريقة التي يتم بها الاتصال بين ملك الوحي (جبريل عليه السلام) الذي هو من عالم الملكوت الأعلى (الغيب)،  وبين نبي من جنس البشر يعيش معهم في ظروف واحدة، وكل جنس له خصائصه الْخَلْقية والخُلقية والذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة لم يشاهدوا الملك مشاهدة عيان؛ وإنّما كانوا يرون رسول الله يتغشاه ما يتغشاه أثناء اتصاله بملك الوحي ليتلقى منه الوحي، أو الخبر من السماء؟ مما كان يجعل النبي صلى الله عليه وسلم، في هذه الأثناء يكاد يكون في غيبوبة تامة، وقد تربّد وتفصّد جبينه عرقا، ثمّ بعد لحظات وجيزة يتلو عليهم آيات بينات؛ قد نقشت على صفحة قلبه نقشا، من غير نسيان ولا اضطراب، وظاهرة التلقي جعلت المستشرقين والمبشرين يفترون بها كذبا، إذ يعتبرونها نوبة عصبية كانت تصيب النبي؛ فتلهمه أفكاره الدينية، ويستوحي منها قرآنه حسب زعمهم المكذوب!

وهل بوسعنا أن نقدّر المسافة التي كان يقطعها الملك في لحظات وجيزة لتبليغ النبي الوحي من السماء؟! وما هو تقديرنا للسرعة الهائلة التي كان يسير بها جبريل، بين عالم الملكوت، وعالم الأرض؟! وعلمنا الحديث لا يعرف سرعة أكبر من سرعة الضوء التي تستغرق ما يقرب من ثلاثمائة ألف كلم في الثانية، وهي سرعة كبيرة جدا، يكلّ العقل في تصورها رغم أنه يتعقّلها ويبرهن عليها بالقياسات الرياضية والفيزيائية.

ولكي يدرك القارئ الكريم الأبعاد السحيقة بين عالم الغيب غير المتناهي، وعالمنا الصغير المتناهي في كوكبنا هذا، فإنني أشير إلى أن علماء الفلك، عندما يريدون قياس المسافات بين الأجرام السماوية في مجرتنا هذه[التي تمثل سماء الدنيا، فإن الأرقام المعروفة لدينا لا تفيهم بالغرض المطلوب؛ لذلك لجأوا إلى استعمال ما يسمونه في حسابهم بالسنة الضوئية، لقياس الأبعاد الشاسعة بين الكواكب والنجوم([2]).

(يقدّر الفلكيون عدد النجوم والكواكب في مجرة درب التبانة ما بين (200- 400 مليار نجم وكوكب)، وهي المجرة التي يوجد بها النظام الشمسي، وشموسها أكبر من شمسنا هذه بمئات المرات وبعضها بآلاف المرات؛ أما تقديرهم لعدد المجرات في هذا الكون فقد بلغ في التقديرات الأولية قرابة 170 مليار مجرة في الكون المنظور، إلا أنه حدث تطور كبير باكتشافات علمية حديثة  خالفت التقديرات الأولية حيث قدرت عدد المجرات بعدة ترليونات، غالبها ذات قطر يبلغ من 1,000 إلى 100,000 فرسخ فلكي.

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com