عود على بدء …كل هذا القبح الممتد في حياتنا؟ (*)/ حسن خليفة
لا تكاد تخطئ عين الواحد منا، وهو يتجول في كثير من مدننا الكبيرة والصغيرة على حد سواء، لا تكاد تخطئ أبدا تلك المناظر والمظاهر القبيحة المزعجة: حفر في الطرقات وعلى حواف الطرقات، تدفق المياه في أكثر من شارع ومكان، وحيّ، وزقاق، انتشار الأوساخ والقاذورات والأتربة وقِطع البلاستيك و”الصاشيات” الممزقة، والألواح وقِطع الكرتون المتسخة، وما سوى ذلك كثير من مظاهر وظواهر التخلّف..
ديكور بائس يجلب سريعا إلى قلبك الكآبة والغم..هذا في وسط المدينة، كل مدينة تقريبا، أما في الشوارع الخلفية والطرقات والأزقة..فعياذا بالله، قد تجد ما لا يخطر على بالك، من قوارير الخمور وركام الأوساخ المتناثرة…ولأذكر بعض المدن التي زرتها على مدى أشهر قليلة، وذلك على سبيل التمثيل فحسب: بسكرة، الوادي، قسنطينة، الخروب، العاصمة، القل، جيجل، سكيكدة، عنابة، باتنة، العلمة… هذا على وجه الإجمال، فإذا ولّيتَ وجهك نحو التفاصيل يمكن أن تنظر في أي مدينة من مدننا في داخلها: في أحيائها وأزقتها ومجمّعاتها السكنية وعماراتها، ستجدها تختزن الكثير من القبح الممتد في كل تفاصيلها، ومنه هذه المكونات المزعجة المنفرة: أكوام متطاولة من الأتربة والردم، بقايا أشغال، مزابل كاملة، برك مياه قذرة، هياكل بناءات غير مكتملة، عمارات كاملة من طوابق كثيرة “مضروبة” كلها بالحديد في أشكال بائسة من “الباروداج”، وعادة بألوان كئيبة: رمادي، أسود، وما شابه… أي مصيبة حلّت بنا حتى يكون ديكورنا الحياتي بهذا السوء؟…وحتى يمتد القُبح في حياتنا بكل هذا السوء.
يكاد يستحيل أن تجد حيا يتكون من عدد من العمارات وفي وسطه حديقة ومساحة خضراء..أقول يكاد يستحيل لأنه قد توجد بعض الاستثناءات، وأخشى ألا تكون.
وضمن التفاصيل أيضا يمكن الحديث عن تلك السلوكيات القبيحة: صراخ و”عياط”، وكلام بذيء و”كفريات” تخرج قائلها من الملة بسرعة البرق، وسباب وشتائم من كل لون ونوع، عنف لفظي وجسدي، شكوى، تذمّر، والقائمة طويلة من القبائح السلوكية والكلامية..
وضمن التفاصيل أيضا كذلك في المطاعم، المقاهي، الحافلات والسيارات، الجامعات، المؤسسات التعليمية والإدارية… أما في الأسواق فحدث ولا حرج، ولعل التعبير الشعبي أنسب في هذا المجال؛ حيث يقول:”الهروب ولا القروب”…
مظاهر مخيفة ومسالك معيبة قبيحة تؤكد كلها على أن الإنسان عندنا في تحول غريب وسعي حثيث إلى كل ما يمكن أن يكون قبحا، ماديا كان أو معنويا.. ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولست أبالغ ولكنها الحقيقة بلا ألوان، الحقيقة كما هي في الواقع المعيش المؤلم.
والسؤال: ما هو السر في كل ذلك القبح المنتشر المتغلغل في تفاصيل مدننا وقرانا؟ ما هو السر في ذلك التراكم البشع للأوساخ والقاذورات والانتشار المريع للمزابل الصغيرة والكبيرة؟ ما هو السر في انعدام الجمال وافتقادنا التجانس والانسجام العمراني، كما في أي بلد آخر، بالأخص منها بلدان أوروبا؟
والأسئلة التي ينبغي أن تطرح هنا هي:
- ما هو السر الكبير في هذا التحول المخيف في الإنسان عندنا؟ وما هي الأسباب التي جعلت القبح يمتد في حياتنا كل هذا الامتداد، حتى صرنا نتعايش معه دون أدنى انزعاج؟ لماذا تخلو حياتنا أو تكاد من السماحة والحب والفضل والخير واليسر، بل ولمَ تخلو بشكل رئيس من الجمال؛ الجمال بكل أنواعه وفي كل ميادينه، الجمال الذي هو لمسة سحرية إنسانية لا يُستغنى عنها؟
- لماذا لا تكتسي سلوكاتنا لباس الرفق والترفق، والمصاحبة والمودة والرحمة؟
- لماذا تبدو مساكننا، من خلال عماراتنا وأحيائنا، كسجون كئيبة مكسوّة بالحديد؟
- لماذا كل هذا الامتداد للفوضى (عمرانية وسلوكية) في حياتنا وواقعنا؟
- لمَ نفتقد إلى الحد المقبول من السماحة واليُسر والرفق والجمال والتعاضد؟
- لمَ يكاد الوعي الجمالي يغيب في نسيجنا النفسي والعقلي؟
- لماذا لا توجد لدينا مساحاتٌ خضراء في كل مكان؟ ولا توجد ملاعب لأولادنا وبناتنا، ولا فضاءات لاستيعاب حركة الأسر(العائلات) وتنقلاتها وأماكن تنفسّها وتنفيسها وترفيهها؟ لماذا كل هذه البشاعة المنتشرة المتسلطة الطاغية على تفاصيل حياتنا، في كل مكان؟
- والسؤال الأخطر: هل نعتقد أن مثل هذه المظاهر لا تؤثر في حياتنا وحياة أسرنا وحياة أجيالنا القادمة؟
والجواب الصادم: للأسف، إنها تؤثر أخطر تأثير، تؤثر في كل تفاصيل حياتنا وفي مستقبلنا.
اليقين عندي أن ذلك كله ليس قدرا مقدورا، وإنما هو من صنيع أنفسنا وأيدينا وبالأخص النخب الحاكمة التي تداولت على “صناعة البؤس” فينا سنين عددا.
نعم هو من صنعنا ومما اكتسبت أيدينا، كل بحسب موقعه ورتبته ومكانته. وبالتالي لكل مسؤوليته في هذا الوضع الذي جعلنا نرتكس ونعيش بلا ذوق وبلا كرامة وبلا إنسانية تقريبا.
(*) ملمح الجمال والبعد الجمالي في الإسلام مما يجب الاهتمام به على نحو مخصوص في أسلوبنا التربوي الإيماني، في التنشئة الأولى وفي دورات التوجيه والتهذيب والمثاقفة .