مؤتمر وارسو.. إعلان التطبيع/ محمد الحسن أكيلال
الصراع الخفي بين روسيا الاتحادية ممثلة للشرق والولايات المتحدة الأمريكية ممثلة للغرب بلغ أقصى مداه بعد أن تأكدت الإدارة الأمريكية أن بقاء قواتها في سوريا خاصة وكل الشرق الأوسط عامة يكلفها أموالا باهظة تستنزف الخزينة الأمريكية ويقف عائقا أمام ما يحلم به الرئيس “ترمب” من النجاح في تحقيق مؤشرات نمو اقتصادي غير مسبوق يسكت به معارضيه ويبقي على شعبيته في أوساط اليمين التي لا شك أنها تأثرت في الأيام الأخيرة جراء ارتباكه وكثرة قراراته المتناقضة التي يتخذها يوميا أو يعلن عنها ثم يتراجع.
الرئيس “ترمب” الآتي من أوساط بعيدة كل البعد عن أوساط أسلافه من الرؤساء من حيث الخلفية الثقافية والمعرفية والسياسية، وسلوكه الخاص في التعامل مع مختلف القضايا زادت عقده في حب التميز والاستعلاء والاعتداد برأيه فقط الذي لا يقبل مناقشته فيه مع أي كان؛ هذه الخاصية جعلته يقع في سلسلة من الأخطاء والمحاذير التي بدل أن تدفعه إلى المراجعة والتصحيح، يندفع إلى ارتكاب أخطاء أخرى ويتحدى ويراهن على سلامة موقفه وقراراته؛ إنه وهو يعي الآن أنه بصدد تغيير كل الاستراتيجية السابقة الموضوعة من قبل خبراء جعلوا منها فعلا منهاجا تسير عليه المؤسسات الاتحادية للإبقاء على سيطرة بلادهم على العالم، ولكنه هو يكابر ويروج لآرائه على أنها هي الأسلم لاستراتيجية جديدة تحمي هذه السيطرة وتطيل أمدها في البقاء منفردة في مواجهة المناوئين الجدد روسيا الاتحادية والصين الشعبية متناسيا أن هذه الاستراتيجية التي يريد القفز عليها هي التي خلصت بلاده من خصم لدود اسمه الاتحاد السوفييتي، القلب النابض لروسيا الاتحادية الحالية والصين الشعبية باعتبارها تأسست هي أيضا على الأسس الشيوعية والثقافية البروليتارية والديمقراطية الاجتماعية عوض الليبرالية.
لماذا وارسو؟
لا شك أن الموقع التاريخي والجغرافي لهذه المدينة وأفكار جانبية أخرى تتعلق بنوايا مبيتة للاتحاد الأوروبي المرفوض أصلا من قبل أمريكا منذ الدعوة إلى تأسيسه من طرف الجنرال “ديغول” المشاكس لأمريكا في عام 1958.
- من الناحية التاريخية “وارسو” عاصمة بولونيا التي كان لها في الحرب العالمية الثانية أدوار معروفة وأعباء ثقيلة تحملتها في البداية والنهاية، وقد اختارتها قيادة الاتحاد السوفييتي مقرا للحلف المناهض للحلف الأطلسي وسمي حلفها باسم هذه المدينة “حلف وارسو”.
الصهيونية العالمية في تأليف بكائياتها على المحرقة والإبادة الجماعية لليهود في بولونيا رغم علم الكثير من الغربيين بحجم المبالغة في الأكاذيب التي بلغت حد الأساطير والخرافات، هذه المؤلفات وما صاحبها من دعاية للترويج لها أعطى وارسو وبولونيا مكانة خاصة عند هذه الحركة الاستعمارية الإجرامية.
التركيز الغربي على بولونيا خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والصراع بين المعسكرين والحرب الباردة جعل منها رأس الرمح في تدمير حلف وارسو ومن ثم تفكيك الاتحاد السوفييتي، رغم أن تشيكوسلوفاكيا الأكثر قابلية لهذه العملية لما عرفته من أحداث في عالم 1955.
التغيير الذي طبخ للاتحاد السوفييتي أُوقدت ناره في بولونيا وبنار أوقدتها الكنسية الكاثوليكية بقيادة البابا نفسه، وبحطب عمال المناجم بزعامة “لاش فاليسا” الذي قلب النظام في بولونيا رأسا على عقب وأدار عقرب البوصلة فيها 180° من اليسار إلى اليمين؛ للعلم بعد الثورة الشعبية في بولونيا ضد الاتحاد السوفييتي أعلن البابا في الفاتيكان على اعتذار الكنيسة الكاثوليكية ليهود العالم ولدولة إسرائيل على سكوتها عن جرائم النازية في حق اليهود في الحرب العالمية الثانية، وكأن الكنيسة المسكينة هي التي ارتكبتها إن ارتكبت حقا.
- جغرافيا: تقع بولونيا وسط أوروبا على حدود أوكرانيا التي كانت إلى وقت قريب تابعة للاتحاد الروسي إلى أن أعدت خطة من طرف الغرب لقلب نظام الحكم والإطاحة بالرئيس المنتخب فيها بواسطة الثورة البرتقالية، والبرتقالي لون بين الأحمر والأصفر الذي حمل لونه في هذه الأيام في فرنسا.
بولونيا التي اندمجت في الاتحاد الأوروبي وهي أيضا على حدود ألمانيا والأراضي المنخفضة لم تعط لها الأهمية التي يجب مقارنة ببلجيكا وإيطاليا وإسبانيا، وهي تعيش حالة انكماش اقتصادي قد يدفع التيار اليساري فيها والقوى العاملة إلى إعادة التفكير ومحاولة العودة إلى المعسكر الشرقي.
هذه المعطيات كلها جعلت بطانة الرئيس “ترمب” من الصهاينة يفرضون عليه اختيار هذه المدينة لاحتضان مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط ويكون واسطة لتقريب وجهات النظر بين الحكام العرب واليهود في دولة إسرائيل وبداية للتطبيع الفعلي للعلاقات العربية الإسرائيلية كوسيلة ضغط على الشعب الفلسطيني للقبول بالأمر الواقع الذي تبنته رسميا صفقة القرن التي أعلن عليها الرئيس “ترمب” بعد انتخابه رئيسا لبلاده.
هل نجح مؤتمر وارسو؟
كل المحللين والمعلقين أجمعوا على أن المؤتمر قبل انعقاده ولد ميتا، لم يحضره رئيس ولا ملك ولا حاكم حقيقي باستثناء رئيس الوزراء الإسرائيلي “نتانياهو”، في حين ناب عن الرئيس الأمريكي نائبه “بينيس” ليظفي عليه نوعا من الهالة البروتوكولية المصطنعة، باقي الحضور من كل المجموع الستين دولة أغلبهم وزراء خارجية أو سفراء بلادهم في بولونيا.
انتهى المؤتمر بفضيحة قام بها “نتانياهو” وجعلت الخارجية البولونية تستدعي السفير الإسرائيلي لتبليغه احتجاجاتها عن الفضيحة.
النجاح الوحيد الذي تحقق لإرضاء غلواء وغرور أمريكا وإسرائيل هو اجتماع وزراء خارجية دول التحالف العربي إلى جانب رئيس وزراء إسرائيل “نتانياهو” كإعلان رسمي عن نجاح التطبيع بين دول هؤلاء من العرب ودولة الكيان الصهيوني المحتلة لفلسطين.
الجواب الروسي
في أثناء انعقاد مؤتمر وارسو انعقد في “سوشي” الروسية مؤتمر جمع كلا من الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” والرئيس الإيراني “حسن روحاني” والرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” لمواصلة تجميع الأفكار الاستراتيجية لإنهاء النزاع في سوريا للدفع بالولايات المتحدة الأمريكية للانسحاب الفعلي منها نهائيا، لأن وجودها هو الذي يطيل فعلا أمد التواجد الإرهابي فيها وانعدام الحل السياسي المطلوب في سوريا لتأمين المنطقة وإبعاد شبح حرب فيها تكون كارثة على الجميع وعلى كل العالم، وخاصة وأن المحاولات الأمريكية الأخيرة للضغط على أوروبا للانسحاب من اتفاقية إيران أصبحت فعلا تنذر باقتراب ارتكاب اعتداء إجرامي ضد إيران سواء من طرف أمريكا أو من طرف إسرائيل.