هل هذا كل ما يريده الجزائريون؟/ عزالدين مصطفى جلولي
وظيف وكنيف ورغيف، هل هذا أقصى ما يتمناه الجزائريون في بلادهم؟ أم هي سياسة يساق إليها الشعب سوقا؟ بعدما طوقت السياسة أحلامه وحبست عنه آماله؟
مظاهر الاستعباد في تاريخ البشرية كثيرة، وكلها تروم غاية واحدة، ضمان بقاء السلطة الحاكمة مهما كان الثمن، غاية تحطمت شراعاتها دوما على صخور القدر، الذي لا يحابي في الحق ولا يجاري.
لما نتأمل حال الإنسان الجزائري في وطنه، يدرك الرائي إلى أي مدى هذا الإنسان أضحى مقهورا؛ انحسرت أمانيه إلا من بيت يأويه، وعمل يدر عليه مالا ينفقه على نفسه وعياله، وإن زاد على ذلك طموحا، فمركب وسفر، وهي لعمرك تشبه حياة العجماوات، التي تربّى في الحظائر، وترسل إلى العمل في الحقول، أو تسمن لتسلخ في المذابح طعاما للآكلين أو لحما يباع في الدكاكين.
على كل حال، فشعبنا في حال لا يحسد عليه، ولا أدل على ذلك من الواقع؛ فالجزائر في نظر الأشقاء والأجانب رقم زائد لا صعوبة فيه، ولا فاعلية له، لا في السلم ولا في الحرب، لا في الشرق ولا في الغرب، وماذا عساها فاعلة، والقائمون على شأنها لا هم لهم سوى التخطيط للبقاء في الحكم مهما كان الثمن؛ فالقرار بأيدهم لا بيد الشعب، والمال دولة بينهم لا حظ للفرد منه إلا في القليل، والإعلام بوق ينفخون فيه ما يرغبون، والسلاح ملك للدولة تدخره ليوم ما، كما ادخره النظام في سوريا.
لماذا تقدم غيرنا ولماذا تأخرنا؟ الجواب واضح وسهل، ورغم سهولته فإنه يمثل الفارق الأساسي بيننا وبينهم، كما أنه على وضوحه يكاد المتسلطون في بلادنا يخفونه عن أنفسهم وعنا، وبشتى الطرق الغبية منها والذكية؛ إنه احترام الشعب في إرادته، وإقامة النفس الحاكمة من هذه الإرادة مقام الخادم الوفي لا السيد الوصي، ذلك هو الفيصل بين الأمم في التقدم والتأخر.
تاريخ الجزائريين لم يبدأ منذ الاحتلال الفرنسي لبلادهم كما يشاع، بل هو تاريخ ممتد امتداد البشرية، حكم الشعب فيها نفسه بنفسه في حقب متطاولة، ودان لغيره برضا وطواعية أزمانا متتالية، وساد في البر والبحر قرونا عديدة، وكان قادته ملء أفواه التاريخ والزمن، إلا في العقود الأخيرة من هذا العصر، عقود لا تحتسب إلا في الزمن الضائع من تاريخ الأمم.
تغيير الحال إلى الأفضل من الممكنات العقلية. وليس الضعف حتمية تاريخية في هذه المرحلة من تاريخنا المعاصر، بل هو خيار مدروس ومخطط له في كل المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ لأن الترهل مس كل الجوانب من الحياة، ولا تكون النتائج شاملة هكذا إلا بمقدمات عامة سبقتها، وأصحاب القرار يدركون هذه الحقيقة جيدا.
لم يتعظ على ما يبدو الرؤساء في الجزائر بما حدث من ثورات هزت عروشا وأفنت دولا، بل كان العكس من ذلك هو الواقع، فقد تعلم هؤلاء كيف يئدون الثورات في مهدها، وكيف يستخدمون ما بأيديهم من قوة لتركيع الشعب بلا رحمة، مرة بالسلم ومرة بالحرب، وهو تعلّم سلبي له تداعيات تاريخية آتية بلا ريب.
وفي المقابل من ذلك، فقد أجّل هذا الشعب المقهور الثورة على ما هو سائد من نظم إلى حين، وآثار التهدئة على الصدام، لأسباب نفسية وحكمة نابعة من ضميره الجمعي، الذي هو متقلب بحسب الظروف وليس ثابتا يورث من جيل إلى جيل. بعابرة أوضح، إن الشعب الجزائري أجل المعركة الحاسمة ضد الاستبداد إلى أجل غير مسمى، كما كان ديدنه في مقارعة المستعمرين، ومن الغفلة الركون إلى هذه النفسية واعتبارها خيارا أوحد للشعب الجزائري.
لا أفضل للجميع من العودة الصادقة إلى إرادة الشعب، وهي إرادة تنفع الحاكم والمحكوم في الدارين، ولا أسوأ للجميع من حبسها والتنكر لها على الدوام، والاعتقاد بأن العافية الظاهرة استقرار دائم؛ ففي هذه الحال الساكنة تكمن الخطورة، لا كما يتوهم الكثيرون، فالبراكين الجبارة تنفجر بعد سكون طويل، مخلفة الدمار في كل مكان. وتلك سنة كونية جعلت للناس كي يصلحوا حياتهم الفاسدة، ويبعثوها من جديد.