منصب الإمارة بين التكليف بها والنَّهي عن طلبها/ محمد مكركب
الإمارة درجات ومراتب بدءا من رئيس المصلحة في البلدية إلى إمام الدولة، أو الملك، أو رئيس الجمهورية على مستوى الدولة، وكل مسئولية في هذه المناصب تبدأ فلسفتها من هذا العنوان[تحمل الإمارة. بين التكليف بها والنَّهْيِ عَنْ طَلَبِها] فمن أعطيها وكُلِّف بها من غير طلب وإلحاح عليها، وكان أهلا لها كفاءة وأخلاقا فإنه يُعان عليها، ويُؤَيَّد ويُنصر، وإن طلبها بإرادته لشهرة المنصب ومورد المكسب وبريق المكتب، وارتفاع المرتب، ولم يقم بها أحسن القيام لنقص أو تقصير، أو لتهاون وسوء تدبير، فسيحاسب عليها حسابا شديدا، يحاسب على كل مصالح الأمة على الكبيرة والصغيرة ولا عذر له، بخطأ فلان أو فلتان، ولا عذر له بضغوطٍ أجنبية، ولا بأزماتٍ دولية، ولا بفتنٍ داخلية، مادام أنه طلبها واختارها بإرادته وسألها وألح عليها، لا يقبل منه الخطأ، ولا النسيان، ولا الاستكراه، ولا الظروف، لأنه يمكن لسباح متمكن يركب زورقه الخاص وحده، ثم يصاب بعارض فيتحطم القارب وقد يغرق، فإذا كان أخذ كل الاحتياطات لا يلام. ولكن من يتحمل مسئولية قيادة سفينة كبيرة عظيمة فيها من المسافرين والمتاع والأجهزة الكبيرة ذات الأهمية العالية، والقيمة الغالية، ويخوض بها أعالي البحار واضعا في حسبانه أنه إن أحاطت به الأمواج وعجز عن القيادة وضعف عن التدبير، يظن أنه لا يلام ويظن أن ما لاقاه من الصعوبات يعفيه من المسئولية، كلا، ثم كلا، فلا يعفى من المسئولية، لأنه اختار بأنه يصل إلى الهدف بالسفينة، فهو ضامن للركاب وضامن للمتاع، ولو تركها لغيره لأعد غيرُهُ للرحلة الماهرين التقنيين، والحكماء المتمكنين، فرئيس البلدية الذي طلب الترشح بإرادته فهو ضامن بأن يحقق لكل سكان البلدية كل مقومات العيش من العمل والسكن والتعليم والماء والكهرباء والصحة والطرق والأمن والسكينة، وأن لا يظلم أحد من المواطنين في بلديته، وأن لا يُغْبَن يتيمٌ ولا تحزن أرملة، لأنه أمير الجميع ووصي على الجميع وتعهد بأن يكون أميرا على الجميع، فهو قد اختار، ولو ترك غيره لقام بما يجب القيام به.
قال محاوري: ومن يستطيع القيام بهذه المسئوليات على أتم وجه؟ فالذي اعتاده الناس الاعتذار بالظروف ونقص الإمكانات، والتبرير بتداخل المسئوليات، والتسويف وشيء من التعليل والتطويل. والله تعالى يقول:﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾. نعم، فالإنسان في شئونه الفردية الخاصة، وفي عبادة ربه عز وجل، وفيما يقوم به تكليفا واجبا عليه، هذا يعمل بمدلول الآية:﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾. ولو قال من البداية: إنه لا يستطيع القيام بهذه المسئولية لما أكرهه أحد عليها، من هو الذي قال: لا أستطيع مهام الوزارة وثقل الأمانة فيها، وأكرهوه عليها؟ ومن قال: لا أستطيع تسيير البلدية، وأكرهوه على تولي مسئوليتها؟ من؟ لا أحد. فكيف يقول أستطيع ويترشح ويلح، ثم إذا طُلِب منه القيامُ بالوجب يقول لا أستطيع!! ولماذا لم يقرأ بعد قوله تعالى:﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ قوله عز وجل:﴿وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا﴾ لِمَ لم يسمعْ نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُطعْ.
فعن عبد الرحمن بن سمرة، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:[يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعْطِيتَهَا عن مسألة أُكِلْتَ إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعِنْتَ عليها](مسلم.كتاب الإمارة.1652). ويقول النبي الكريم لأبي ذر أيضا ناصحا إياه ومبينا له خطورة الإمارة، وما موقف الأمراء والرؤساء يوم القيامة:[يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا](مسلم:1825) فهل بعد هذا التحذير يظل الإنسان العاقل متحملا هذا الحمل الثقيل لِيَأتي يوم القيامة بأوزاره وأوزار من وَلَّاهم وما خافوا ربهم، سبحان الله نبي الرحمة يخاطب أبا ذر:[يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم]؟!
وفي المقدمة لابن خلدون:[اعلم أنّ الاجتماع للبشر ضروريّ وهو معنى العمران الّذي نتكلّم فيه، وأنّه لابدّ لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه وحكمه فيهم تارة يكون مستندا إلى (سياسة) شرع منزل من عند الله، يوجب انقيادهم إليه لإيمانهم بالثّواب والعقاب عليه…(هذه السياسة الشرعية) يحصل نفعها في الدّنيا والآخرة لعلم الشّارع بالمصالح في العاقبة ولمراعاته نجاة العباد في الآخرة]. قال ابن خلدون:[ومن أحسن ما كتب في ذلك (في سياسة الحكم ودور الأمير) كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما] وهذا الكتاب من بين أحسن وأجل ما ينتفع به السياسيون إذا أرادوا الخير لأنفسهم ورعيتهم (المقدمة. الكتاب الأول. الباب الثالث.ف:51). وأكتفي هنا بنقل هذه الفقرة التي بدأ بها كتابه الذي يحتوي ثماني صفحات كبيرة (179) سطرا. [(بسم الله الرحمن الرحيم) أمّا بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته ومراقبته عزّ وجلّ ومزايلة سخطه واحفظ رعيّتك في اللّيل والنّهار والزم ما ألبسك الله من العافية بالذّكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسئول عنه، والعمل في ذلك كلّه بما يعصمك الله عزّ وجلّ وينجّيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه فإنّ الله سبحانه قد أحسن إليك وأوجب الرّأفة عليك بمن استرعاك أمرهم من عباده وألزمك العدل فيهم والقيام بحقّه وحدوده عليهم والذبّ عنهم والدّفع عن حريمهم ومنصبهم والحقن لدمائهم والأمن لسربهم وإدخال الرّاحة عليهم ومؤاخذك بما فرض عليك وموقفك عليه وسائلك عنه ومثيبك عليه بما قدّمت وأخّرت ففرّغ لذلك فهمك…] قال ابن خلدون: لما قرئ الكتاب على المأمون قال:[ما أبقى طاهر بن الحسين شيئا من أمور الدنيا والدين والتدبير والرأي، والسياسة وصلاح الملك والرعية، إلا وقد أحكمه وأوصى به. ثم أمر المأمون فكتب به إلى جميع الولاة ليقتدوا به ويعملوا بما فيه] قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:[ الدِّينُ النَّصِيحَةُ] قُلْنَا: لمن؟ قال:[لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ](مسلم. كتاب الإيمان. باب بيان أن الدين النصيحة. رقم: 55).
عماد الدين وقوامه النصيحة، فالنصيحة لله تعالى معناها الإيمان به ونفي الشريك عنه أي أن المؤمن ينصح نفسه في الله، لأن الله سبحانه وتعالى غني عن نصح الناصحين. والنصيحة لكتاب الله سبحانه وتعالى معناها الإيمان بأنه كلام الله تعالى والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابه. وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصديقه على الرسالة والإيمان بجميع ما جاء به واتباعه بلا جدال ولا اعتراض.
أما النصيحة لأئمة المسلمين ـ وهذا هو موضوع البحث ـ معناها: معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه، وأمرهم به، والمراد بأئمة المسلمين الخلفاء والأمراء، وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين من أصحاب الولايات. فمن اجتهد ونصح وكان مصيبا في نصحه فله أجران: أجر النصح للعمل به، وأجر إثبات الشهادة لله لأن لا يكون لأئمة المسلمين المتهاونين والمخطئين حجة واعتذار.
وأرى أن أهم ما ينصح به أئمة المسلمين هو أن يُوَلُّوا أهل العلم والكفاءات ما يجب من المسئوليات أن يعينوا العلماء (كل في علمه وتخصصه) في المناصب ذات الشأن الخطير في الدولة، وأن يكون مجلس الشورى كله من العلماء المعترف لهم بالعلم والخبرة في الاقتصاد والقانون والسياسة والشريعة والتربية، والصحة، وغير ذلك من الشئون العسكرية والإدارية، العلماء الذين لهم بحوث ودراسات وأثبتوا إخلاصهم للوطن وحسن تدينهم لله رب العالمين.
حيث مازال كثير من الرؤساء والملوك والأمراء يستبدون برأيهم ولا يستشيرون العلماء أو يقتصرون على مؤيديهم، ولا يسمعون النصح، وهذا ليس في صالحهم ولا في صالح شعوبهم، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام وهو رسول يوحى إليه ومع ذلك يستشير في المسائل الاجتهادية السياسية بل إن الله تعالى أمره بأن يشاور صحابته في الأمر. قال الله تعالى:﴿وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾(سورة آل عمران:159) وقال تبارك وتعالى:﴿وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ﴾(سورة الشورى.38) وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ ما اسْتُخلِف خليفةٌ إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عَصَمَ اللهُ ]( البخاري.كتاب القدر.باب المعصوم من عصم الله.6611). وفي الحديث تحذير لأئمة المسلمين حتى لا يقعوا في الشر الذي تدعو إليه بطانة السوء. وهناك جهة ثالثة من المقربين والموظفين الذين لا يعلمون من تسيير شئون الدولة شيئا وقد تغيب عنهم قضايا دقيقة وعميقة في فضاءات السياسة الداخلية والخارجية والتي يتوقف عليها مصير الأمة، ولا ينتبهون إليها، ومع ذلك يعتمد رأيهم ولا يسمع لنصيحة غيرهم، فهناك من لا يطعن في دينه ولا في إخلاصه لوطنه، ولكن النقص في الكفاءة في العلم والتخصص والذكاء وقدرة التسيير، والحكمة والفطانة السياسية. وهذا الخلل هو الذي كان السبب المباشر في وقوع الفتن والحروب الأهلية، والخروج والثورات الحرورية منذ القرن الأول الهجري.
كل مسئول يوجد في محيط دائرة عمله صنفان من المقربين إما بالتعيين والولاء أو بالتزلف والرياء، منهم من يريد الدنيا ولو على حساب الدين، وهؤلاء لا يشيرون على إمام المسلمين إلا بما فيه مصلحتهم من العلف، وهؤلاء يأمرون بالشر ويحضون عليه، إما عن عمد وقصد، أو عن جهل وصد، وغالبا ما تكون بطانة الشر هي الغالبة إذا تعاونت مع الساذجين والساكتين من المقربين، ولذلك كان أبو بكر وَمِنْ بعده عمرُ رضي الله عنهما وكل الخلفاء والأئمة الصالحين كانوا يسألون العلماء في المسجد أو في مكان عام حتى يسمع كل عالم وينصح ويشير بالحق الذي يعلمه، ولا يكتفون بالبطانتين، وقد سمعتم كيف أن الخليفة المأمون لَمَّا بلغته النصيحة من كتاب أبي الطيب طاهر بن الحسين، وعلم أنها نصيحة نافعة خالصة لله رب العالمين، عمل بها وأمر ولاته أن يعملوا بها، فإذا جمع الإمام العلماء الذين ظهر اجتهادهم في التخصصات العلمية واستنصحهم بإخلاص وعمل بنصيحتهم لا يندم ولا يخيب.أعد قراءة الآية إذا كنت من المؤمنين بالقرآن:﴿وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ بل أرجوك أن تقرأ الآية كلها بتدبر ووعي ونية صادقة:﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(سورة آل عمران:159).
راجعت تاريخ أكبر الدول والحضارات في أيام ازدهارها فوجدت أن الإمبراطوريات الدنيوية أو الدول والممالك المؤمنة الصالحة قد علا نجمها وعظم مُلْكها عندما كان خلفاؤها أو ملوكها يَسْتَشِيرون العلماء بإخلاص والعلماء يُشِيرون بإخلاص، وحتى الدنيويون منهم كانوا ولا يزالون يحترمون العلماء المتمكنين المتصفين بالعلم والذكاء والقدرة. وكان أئمة الأندلس في العهد الأول يقربون العلماء ويشجعون العلماء ويستشيرون العلماء فصارت الأندلس عاصمة من عواصم العالم في العلم والمدنية والأصول الحضارية، فلما كان آخر العهد الأندلسي صار ملوكهم المتنازعون على مناصب الزعامات يقربون الشعراء والمغنيين، ويكتفون بمستشاري البطانات المدسوسين فزال ملكهم، وخرج آخر ملوكهم يبكي كما تبكي النساء.