ترمب يصر على الفشل – 2 -/ محمد الحسن أكيلال
أعاد السيد “ترمب” التأكيد من جديد وكرر قراره القاضي بالانسحاب من سوريا وأفغانستان لأسباب مالية، ثم بعد هذه التغريدة غرد مرة أخرى ليعلن عن قرار انسحاب بلاده من اتفاقية الصواريخ الصغيرة والمتوسطة المدى التي وقعها الاتحاد السوفييتي في عهد “غورباتشيف” والولايات المتحدة الأمريكية في عهد “ريغان” في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي.
التغريدتان خلفتا زوبعة قوية أضيفتا إلى الزوابع التي قبلهما لتشكل في المجموع سحبا داكنة تغطي سماء الولايات المتحدة ووضعت الرأي العام الأمريكي في حالة انقسام لم يعرف له مثيل من قبل، الانقسام المعهود بين اليمين واليسار، بين الديمقراطيين والجمهوريين وانقسام أخطر بين الجمهوريين أنفسهم حول قضايا يعتبرها المعارضون للرئيس مبدئية تتعلق بالمصالح العليا للولايات المتحدة وسمعتها وعلاقاتها بحلفائها الرأسماليين في أوروبا وآسيا والأمريكيتين.
الرجل وهو ينظر إلى جموع ناخبيه من الشعبويين من الفئات الاجتماعية المحدودة في مستواها الثقافي والمعرفي لا يريد أن يعير أي اهتمام حتى للنخبة في حزبه الجمهوري الذي ما زال يمثل الأغلبية في مجلس الشيوخ، إنه يصر على السباحة ضد التيار دون مراعاة للأخطار التي يحذره منها هؤلاء والتي تحدق بمستقبل البلاد ومكانتها كقطب وحيد ينفرد بتسيير شؤون العالم ويتحمل الوزر الأكبر فيما يتعلق بالسلم والأمن فيه.
إنه يعتقد أنه الأذكى وأنه الأحرص على المصالح الحيوية لبلاده من غيره، فهو يرى أن استراتجيته التي تصورها بنفسه والتي اعتمد فيها على الحسابات المالية المحضة دون الاكتراث بالعائدات الفعلية من العلاقات مع الدول الحليفة والتواجد العسكري والأمني في كثير من مناطق العالم.
أمريكا اللاتينية أولا
المؤكد أن السيد “ترمب” وهو يتهجم على جهاز مخابرات بلاده في الأسبوع الماضي نسي أن ما حدث في البرازيل من تغيير في نظام الحكم بعد الإطاحة برئيس الجمهورية السابق الذي كان له الفضل في إيصال بلاده إلى تبوؤ مكانتها ضمن مجموعة العشرين الأكثر ثراء في العالم والمساعدات المختلفة التي قدمتها للرئيس الحالي الذي يأتي من أوساط اليمين المتطرف الشعبوي كــ “ترمب” نفسه، فهو استفاد كثيرًا من الملفات التي وضعتها هذه المخابرات واستعان بكثير من المعطيات والمعلومات التي تضمنتها هذه الملفات.
وللنجاح المحقق في البرازيل رأى أن يكرر التجربة في فنزويلا ضد الرئيس “مادورو” المنتخب من طرف الشعب، وفي هذه العملية استعان بعملية أوكرانيا التي كانت السبب في إثارة الصراع ضد الاتحاد الروسي الذي لن يغفر له هذه المرة؛ لأن الطوق الصاروخي الذي حاول أن يحيط به روسيا الاتحادية يبدو أنه لن يمر بسهولة كما تصور هو وصديقه “نتانياهو” الذي يريد اللعب مع الكبار اعتمادا على مخزون الأسلحة الأمريكية في فلسطين المحتلة، وخاصة النووية والصاروخية، فتجربة كوبا عام 1958 ما زالت في ذاكرة الرئيس “بوتين” ومجلس أمنه القومي.
لقد قرر “ترمب” أن يستعيد السيطرة على كل القارة الأمريكية شمالا وجنوبا نظير انسحابه من كل مناطق غرب آسيا ربما للاستعداد لمفاجآت الصين وروسيا الاتحادية مستقبلا. وقراره هذا اتخذه بعد زرع منصات صواريخ “طوما هوك” في مناطق كثيرة من أوروبا الشرقية وفلسطين المحتلة، وفي هذا إشارة منه إلى معارضيه في الداخل بأن رؤيته واستراتيجيته هي الأنجع في الوقوف في وجه العملاقين روسيا الاتحادية و الصين الشعبية.
إنه لا يعرف أن قراراته الأخيرة المتمثلة في التنصل من اتفاقية إيران النووية وتبعاتها والعقوبات الاقتصادية الأقسى ضدها انعكست سلبا حتى على الدول الأوروبية القريبة الحليفة وجعلتها تتأفف منه ومن هذه القرارات المجحفة التي طالتها هي أيضا وأصبحت تفكر جديا في الاعتماد على قوتها الذاتية، وهذا يعني بداية الشرخ في العلاقات الاستراتيجية التاريخية بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية.
نسي “ترمب” وهو في قمة النشوة باحتفاء ناخبيه به في كثير من الولايات الأمريكية أنه وهو يتخذ قراراته تلك وأهمها الإعلان عن صفقة القرن والاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لدولة إسرائيل فإنه مهد الطريق واسعا لإحياء محور المقاومة في الشرق الأوسط الذي يستند في معظمه إلى قوة العلاقات التقليدية والتاريخية القائمة منذ عهد الاتحاد السوفييتي بين تيار المقاومة العربية الإسلامية وروسيا والصين الشعبية.
لم يفكر “ترمب” بأن نزوعه إلى الانفراد بالقرار والإبقاء على القطبية الأحادية رغم بداية أفول نجمها بأن روسيا اليوم ليست هي روسيا في عهد “غورباتشوف” أو “إلتسين”، وأن تعاونها، بل وشراكتها الاستراتيجية مع الصين الشعبية وقوتها التكنولوجية وخاصة في ميدان الأسلحة الذكية يمكن أن يقلب المعادلة التي فكر فيها، تلك المعادلة التي اعتمد فيها على التفوق المالي والاقتصادي لاستنزاف الاتحاد الروسي إذا فكر في الرد في سباق التسلح النووي والصاروخي.
لم يدرك ولم يع أن انسحابه من اتفاقية “سالت 2” الخاصة بالصواريخ الصغيرة والمتوسطة المدى أصبح لا معنى له بعد ظهور دول أخرى تمتلك ترسانة منها وعلى رأسها الصين وكوريا الشمالية والهند وباكستان وإيران وكل هذه الدول لم توقع على هذه الاتفاقية.
الاستنزاف يصبح لا معنى له، ودولة إسرائيل التي يعتمد عليها في حالة نشوب حرب في المنطقة ستكون الوسيلة التي تطرد بها أمريكا من كل المنطقة بعد زوال هذه الدولة المصطنعة وسقوط كل الأنظمة العربية الرجعية العميلة لها ولأمريكا.
إن الانسحاب الذي قرره السيد “ترمب” من شمال سوريا لا شك أنه سيفيد الخزينة الأمريكية، وفي هذا فهو محق في ما قرر لأنه وعد بذلك ناخبيه في الحملة الانتخابية، ومحق أيضا إذا كان قراره هذا نابع من وعي بالتحولات التي تتسارع في المنطقة وظهور روسيا الاتحادية في حالة من الإصرار على استرجاع مكانتها السابقة في العالم في عهد الاتحاد السوفييتي ومكانتها بصفة خاصة في منطقة الشرق الأوسط التي هي أصلا تقع على حدودها الجنوبية والاتحاد الروسي يربط بينه وبين كثير من شعوب المنطقة وأولها الشعب الفلسطيني علاقات نضال وكفاح مشترك ضد الإمبريالية والرجعية والاستعمار؛ فـــ “ترمب” إذا كان يعي هذا فهو أكثر من محق حتى ولو من باب التكتيك، لأن المحافظة على الحدائق الخلفية لبلاده في أمريكا اللاتينية كالأرجنتين والبرازيل أولى من التسكع في منطقتي الشرق الأوسط والأدنى.
لفلسطين الآن ولشعبها أن يعد العدة، وللفصائل أن تستعد للقاء التاريخي الذي يجمعها قريبا في موسكو والذي يجب أن ينتهي بمصالحة تاريخية وإعادة توحيد القوى والفصائل تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية… يا رب.