سؤال العيد: بقلم/ محمد جربوعة
موضوع طويل..يقصرُ بصدقك في الفهم..تركت كل مظاهر العيد وتفرغت لكتابته لما هالني مما رأيت من فرح الناس المفقود في العيد.. وهو لا يعني شيئا للعابثين في الفايسبوك ممن يحبذون جملة قصيرة للتعليق عليها بكلام فارغ، أو بهاءات متصلة، تدل على الضحك زعما..
سأبدأ موضوعي بصورتين..الأولى لساحة القصر في شتوتغارت الألمانية..والثانية لحي امبابة شمال محافظة الجيزة في مصر..ولا شجرة..ولن أدلكم أي الصورتين لألمانيا وأيهما لمصر..فقط.. اتبعوا الكآبة فسترشدكم إلى حي امبابة..
وسؤالي هو: في أيّ واحد من المكانين تظنون أنكم تجدون الانتعاش والاسترخاء والسعادة؟
وكلما جاء عيد، تنهّدت أنفس وهي تردّد: ( بأي حال عدت يا …؟)
وقد تكررت الشكوى من أصدقائي بأنّ العيد لم يعد سعيدا..وهو ما اقتضى منّي أن أنشر هذه السطور..
أولا:
كلّ ما حولنا، وطيلة أيام السنة، لا علاقة له بالسعادة..فكيف يمكن للقلب أن ينام ليلة العيد تعيسا متعبا مثقلا بالسواد والضيق، ثمّ يستيقظ صبيحة العيد أبيض مشرقا مرفرفا كعصافير الجنة؟
كلّ ما حولنا تعاسة..من أوضاعنا العربية والإسلامية، إلى أخلاقنا ..فكيف يكون هذا القلب سعيدا وسط كلّ هذا الحصار، وهذا الركام، وهذا الكرب؟
إن فعل القلب ذلك، فهو لا شكّ قلبٌ بلا قلبٍ..أو قلبٌ بقلبٍ بارد …
ثانيا:
هل تظنون أنّ الله عز وجل حين قال:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه: 124]، لم يكن يقصد ذلك فعلا؟
يقول قائل: فكيف تكون شعوب غربية غير مسلمة سعيدةً وهي معرضة عن الذكر؟
أقول: تفسير الذكر ليس كما صدّع رؤوسنا رجال الدين طيلة عقود، بأنّ الذكر هو ذكر اللسان..وأنه قراءة القرآن والدعاء..
الذكر منهاج حياة..صراط في الدنيا وأسلوب في العيش..ليس هو الإسلام، بل مقتضى الإسلام ونتيجته..مقتضى الإسلام أن تكون راقيا، محترما، بريء الذمة، إيجابيا، بانيا لا مهدّما، خيّرا، لا أزمة..تزيد العالم جمالا لا سوءا…
ثالثا:
والشعوب الغربية، بلغت مقتضى الإسلام من غير طريق الإسلام.. فتراها متقنة للعمل، مقيمة للعدل، رحيمة بالضعيف والمنقطع، محترمة للآخر، جميلة العمران، جادة مثابرة..وذاك سرّ سعادة الدنيا، وسبب الراحة فيها.
وقد شهد بذلك حديث المستورد القرشي في صحيح مسلم، وفيه: ((قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلّم يَقُولُ: « تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ». فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ؟! قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ! قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ، وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوك)).
فانظروا إلى أخلاق الروم التي تجعلهم اليوم سعداء ظاهرين:
– أحلم الناس ومنهم نحن، عند الفتنة..أما نحن ففتنا لا تربو عليها فتن..
– وهم أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة، ونحن في الجزائر لا نزال نبرّر هواننا وفشلنا بالاستعمار أو بسنوات الجمر، وقد مرّ عليها من الزمن ضعف ما استعادت فيه اليابان عافيتها بعد هيروشيما..
– والروم خير الناس لمسكين ويتيم وضعيف، تراهم يتكفلون بكل أولئك ولو لم يكن منهم، فأيّنا طبّق أوامر الإسلام بوجوب العطف على الفقير واليتيم والضعيف؟ ومن الذي أعرض عن الذكر؟ هم أم نحن؟
– والروم أمنع الناس من ظلم الملوك، ونحن أكثر مظلومي الملوك، ولا يكاد يضع رجل منا التاج على رأسه، إلا ويتربب ويأخذ مكان الله تشريعا وبطشا وجلدا للظهور وإطلالا للعباد …
رابعا:
فإن أعطيتموني قانونا عادلا يستوي تحته الناس، وأمنا وأمانا، وبيئة محترمة، واكتفاء للمرء، فأنا كفيل بأن أضمن لكم أعيادا تحلّق فيها قلوبكم كالطيور سعادة ..
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الترمذي: (من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا) .. فكيف تكونون سعداء ولا أمن ولا أمان، وقد تحولت مدنكم إلى غابة؟
وكيف تكونون سعداء، ومَن مرِض منكم ذاق الأمرين وثالثهما، وأرهقته الإدارة في علاجه أكثر من رهق المرض نفسه؟
وكيف تكونون سعداء وباب الأرزاق يضيق، والأقوات تشح، والجفاف يشتدّ، والغلاء يزداد، والبطالة تستفحل..والثروات تنضب نهبا وإفسادا..؟
خامسا:
اسمعوني جيدا..لن تسمعوا الكثير من الذين يحتقرون الدين والثوابت، ولا من الذين يلبسون عباءات التدين والإفتاء والدعوة .. فكثير منهم هو نفسه من أسباب انهيارنا وتعاستنا ..
والخروج من حفرة الدم والألم هذه ليس مستحيلا، لكنه بحاجة إلى رأي مشرق، وهمّة مجنحة ..
ألم يقولوا إنّ من أسباب سعادة القلب الخضرة والماء والوجه الحسن ؟
فأينه الماء، وماء الشرب نفسه شحيح منعدم، والناس يركضون بالدلاء في المدن والبراري؟
وأينها الخضرة وقد تصحّرت المنطقة وأكلتها نار الشؤم؟
وأينها الوجوه الحسنة، وكل وجوهنا أكلها الحزن وأحرقتها الدموع وشيبتها المآسي؟
إنّ ساحة خضراء، تثرثر فيها نوافير الماء، وينتثر فوقها الرذاذ، يأمن فيها الإنسان على نفسه وسربه، لا فيها عدوان ولا أذى ولا سوء جيرة، ولا في زواياها مدمنو مخدرات، أو مستعرضو خناجر وسيوف، لكفيلة بأن تصنع مجتمعا سعيدا، خالي النفس من العقد والأزمات والتلوّن..
تسألونني: تقصد أنّ السعادة تصنع؟
أجيب: السعادة ككل شيء تُربّى..الجدار يربى..والعصفور يربّى ..والزهرة، والطفل.. والأخلاق..والعلم.. والمنسوج، والحرية .. والحضارة ..
فهل نفعل ذلك؟ أم أننا حقّت علينا السوأى؟
سجلوا عندكم: لم تعجز السعادة عن الوصول إلينا..نحن الذين عجزنا عن الوصول إلى السعادة .. لسبب واحد وهو أننا لم نعد نعرف كيف نكون سعداء..ولا في أي دكان تباع السعادة، وما ثمنها .. وأكبر أخطائنا أننا نظن السعادة طائر غبيّ سيدخل قفصا فقط لأننا كتبنا عليه (قفص السعادة) أو ( يوم العيد)…
سؤال أخير: حكوماتكم وأحزابكم وجامعاتكم لن تفتح لكم أبدا مجالا لمناقشة مواضيع كهذه ولو عشتم ألف سنة إلا سبعين سنة لا عاما..فهل تكون هذه بداية لنفتح معا مواضيع عبر نقاش مهموم وجاد؟