ترمب يصر على الفشل/ محمد الحسن أكيلال
الولايات المتحدة الأمريكية تعيش هذه الأيام أزمة لم تعرفها منذ تأسيسها، فالإغلاق الحكومي بلغ مداه 36 يوما كاملا بقي فيه موظفو وعمال الإدارة الفيدرالية وعددهم أكثر من 800 ألف دون أجور لسبب بسيط هو عملية شد الحبل بين الرئيس ترمب الجمهوري ومجلس النواب الديمقراطي ولسبب بسيط أيضا رفض النواب لطلب الرئيس تخصيص ميزانية قدرها 5.5 مليار دولار لبناء سور أو “سياج” على الحدود الجنوبية الفاصلة مع جمهورية المكسيك لإيقاف الجموع من المهاجرين من أمريكا اللاتينية إلى الولايات المتحدة.
”ترمب” قدم تنازلا تكتيكيا بتوقيع اتفاقية فتح الإدارات مؤقتا إلى غاية شهر فيفري القادم كنوع من إظهار حسن النوايا وأملا في أن يتغلب العقل والحكمة لدى النواب الديمقراطيين لكن يبدو أن هؤلاء ما زالوا مصرين على موقفهم الذي بنوه ليس على السور فقط، بل على كل المواقف التي أعلنها السيد ترمب من كل القضايا الداخلية والخارجية ابتداء من السياسية الاجتماعية والاقتصادية وانتهاء بالسياسية الأمنية والعسكرية وخاصة القرار المتعلق بالانسحاب من سوريا الذي ألَّب عليه حتى أنصاره من الجمهوريين الغلاة.
لقد جعله انتصاره في الانتخابات الرئاسية بتلك الطريقة واحتفال العرب به في محفل الرياض الذي حصل فيه على وعود مالية ضخمة من المملكة العربية السعودية وبوعد أكبر يتعلق بما سمي صفقة القرن، كل هذا جعله يستخف كثيرا بكل معارضيه بما في ذلك أقرب الأصدقاء إليه الذين تتالوا على تقديم الاستقالات من مناصبهم.
إن الرئيس ترمب في الحقيقة يعتبر أصدق الرؤساء الأمريكيين مع أنفسهم ومع ماضيهم، فهو إلى حد الآن لم يخلف وعدا قطعه، وكل ما وعد به نفذه أو بصدد تنفيذه، وهو بحكم خلفيته الاجتماعية والثقافية وعقيدته الصهيونية والمسيحية الإنجيلية أظهر الكثير من الإيمان الصادق بما وعد أو قال أو غرد في تويتر، ولقد ذهب بعيدا في هذا الشأن حينما بقي مصرا على الدفاع على ولي العهد السعودي والمملكة العربية السعودية بعد جريمة اغتيال الصحفي ”خاشقجي” رغم الضغوط الهائلة التي تمارس عليه من قبل أغلبية قادة حزبه وفق أغلبية الكونفرس بغرفتيه وكل البلدان الغربية الحليفة لبلاده.
هذه الخلفية التي أورثته كثيرا من الجشع والطمع الذي جعله يواصل انتظار المملكة العربية السعودية في الوفاء بوعودها فيما يتعلق بمبلغ 4.5 مليار دولار استثمارات و1.10 مليار دولار لشراء الأسلحة وقيامها بإقناع الفلسطينيين والعرب بصفقة القرن، وفي هذا خطأه الفادح في الحسابات لأن المملكة يبدو أنها وهي ترى وتسمع يوميا ما يعلنه الكبار من الجمهوريين اتجاه الجريمة إضافة إلى معاناتها من الناحية المالية والاقتصادية، فإنها يستحيل تلبية طلباته، وهذا يعني الفشل في كل شيء.
سلسة الفشل في مسار ترمب
1- الاعتماد على ”نتانياهو” في الوساطة بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل الدخول في معترك الانتخابات الرئاسية وقيامه بعمليات استثمار في روسيا في النفط والسياحة وأهمها بناء برج ترمب في موسكو.
هذه العلاقة شجعته على التقرب أكثر من الرئيس بوتين والاطمئنان إليه لما لمسه منه من قوة الشخصية والذكاء الخارق والحنكة السياسية التي لم يجدها لدى السياسيين في بلاده وفي البلدان الغربية الأخرى.
الأكيد أنه استفاد كثيرا من توجيهات بوتين ونصائحه التي استعان بها للفوز في الانتخابات، لكن ما لم يتفطن له هو الآثار والانعكاسات السلبية المدمرة له بعد الفوز وهي محسوبة من طرف بوتين بذكاء خارق، ترمب الآن يعاني من حملات اتهام وفتح تحقيق قضائي يمكن أن ينتهي بعزله أو على الأقل يحرمه من الفوز بعهدة ثانية، إنه يجهل تماما ما حاكه بوتين للانتقام لبلاده في فترة التسعينيات من القرن الماضي بواسطة المخابرات الأمريكية والصهيونية، وهو بكونه كثير الفساد والاعتداد برأيه يرفض حتى نصائح أقرب أصدقائه إليه في بلاده وحزبه.
2- المراهنة على محمد بن سلمان ولي العهد السعودي كحصان للفوز باقتناعه بمنطقه وحججه وبراهينه على قدرته على جر كل الحكام العرب والمسلمين لتطبيع العلاقات مع دولة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وتوقيع صك على بياض بقبول الأمر الواقع الإسرائيلي والتخلي عن كل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بما في ذلك حق العودة للاجئين والقدس كاملة عاصمة أبدية لإسرائيل.
هذا الحصان الأهوج الذي يشبه ترمب في كثير من السلوكيات والتصرفات سرعان ما اندفع للقيام بجريمة اغتيال صحفي يعيش في أمريكا ويكتب في أقوى وأرقى صحفها ”الواشنطن بوست” الجريمة التي دمرت المعبد على الجميع في المملكة وفي البيت الأبيض معا.
هذه الجريمة أكدت أن رهان ترمب على شخص محمد بن سلمان وحتى على الملك والده سلمان رهان خاسر، فالفشل كل الفشل لمسعى الرئيس ترمب.
3- حصان آخر اعتمد عليه الرئيس ترمب هو نتانياهو، الذي يجر صهره من أذنه حيث يشاء ويدوس على كل الإستراتيجية الأمريكية الموضوعة منذ السبعينيات من القرن الماضي للسيطرة على العالم، ومن ضمنها منطقة الشرق الأوسط، هذه الاستراتيجية على علاتها لم تدرج فيها القضية الفلسطينية بالصيغة التي يطالب بها نتانياهو منذ توليه رئاسة الحكومة الاسرائيلية.
مؤتمر وارسو
اختيار مدينة ”وارسو” التي كانت عاصمة للحلف ”وارسو” الخصم اللدود للحلف الأطلسي في عهد الاتحاد السوفياتي الذي فككته المخابرات الأمريكية والصهيونية خلال أواخر ثمانينيات القرن الماضي له مغزاه لدى ترمب ولدى الذين أشاروا إليه بذلك وعلى رأسهم وزير خارجيته ومجلسه للأمن القومي فمؤتمر كهذا يمكن أن يجمع حوله دول الاتحاد الأوروبي والدول العربية الحليفة لإسرائيل، وقد يكون دافعا قويا لإقناع الفلسطينيين بقبول صفقة القرن بعد بعض التعديلات عليها خاصة ما يتعلق منها بمدينة القدس، بحيث سربت بعض المعلومات التي تفيد بأن تعطى للفلسطينيين أجزاء من هذه المدينة باستثناء الحي القديم ومنطقة الحرم لتكون عاصمة لهم، والاعتراف بدولة فلسطينية على مساحة 90% من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة ولكنها منزوعة السلاح.
لطالما كان كثير التشبث برأيه معتدا به ومصرا كل الإصرار على تحقيق ما يريده، وأنه منذ شبابه بل طفولته اعتاد على الحصول على ما يريد بأي شكل وبأي ثمن فهو يعتقد أنه بإمكانه فرض رأيه أيضا على كل الشعوب العربية والإسلامية بما فيها الشعب الفلسطيني الذي صمد طيلة ما يقارب القرن من الزمن وهو يقدم تضحيات تلو التضحيات، قوافل متتالية من خيرة أبنائه وبناته، وفي الأخير يأتي البائس التعيس الجاهل دونالد ترمب فيقنعه بأكاذيبه وببضعة دراهم يفرض على المملكة العربية السعودية والإمارات العربية أن تدفعها له من ريع النفط والحج، هكذا بكل سهولة ويسر يحصل السيد ترمب على ما يريد ويرضي ابنته التي اعترف أنه يعشقها ويتمنى لو كانت ليست من صلبه ليطأها، ويرضى صهره كوشنير الذي هو بدوره وعد صديقه نتانياهو أن يحقق له حلمه بكل أرض فلسطينية وعاصمتها القدس كل القدس.
أحيانا يبلغ الغرور في بعض البشر درجة أن يعتقدوا بأنهم ما داموا الأقوى فلهم أن يفعلوا بغيرهم ما يشاءون حتى ولو بقتلهم أو الرمي بهم في أفران النار التي تصنعها الصواريخ والقنابل التي يمنحونها لدولة الكيان الصهيوني، إنهم لا يعرفون قيمة الدماء ولا يعرفون معنى الثأر عند كل شعوب المنطقة.
إنهم مازالوا يعتقدون إمكانية نجاح مؤتمر وارسوا في بولونيا، رغم أنهم تلقوا الكثير من إشارات العزوف من طرف الدول الأوروبية، وكثير من الارتباك والحرج لدى حكام العرب من حلفائهم، وأن الفلسطينيين بعد إعلان سلطتهم ورئيسهم عن رفض الصفقة جملة وتفصيلا عقدوا العزم على شد الرحال إلى موسكو التي تنتظر الفرصة للانتقام هي أيضا من جبروت أمريكا.
لم يكن يعلم وهو يتخذ قرار الانسحاب من سوريا والعراق وأفغانستان لدواع مالية كما صرح لبعض وسائل الإعلام بأن إنفاق أكثر من 7 ترليون دولار دون فائدة، وهو في هذا محق وقمة الغيرة والإخلاص لوطنه، ولكنه لم يكن يعلم ولا يعي الخسارة التي تنتظر وطنه وهو يحاط بالجهات الأربعة للقوات الروسية والصينية الدولتان التي ترتبطان بإيديولوجية واحدة وبمصالح عليا مشتركة وأهمها التخلص من جبروت أمريكيا الاقتصادية والمالية خاصة بعد استدراج كثير من الدول للتخلي عن الدولار كعملة في المبادلات التجارية الدولية.
لن يستطيع أن يعرف أو يفهم لأنه محدود الأفق المعرفي والسياسي، والقضية الفلسطينية التي تعتبر لدى كل العالم جوهر الصراع فيه وأن من يسمونه الشعب اليهودي الذي يحتل أرض فلسطين بقوة الحديد والنار هو كل الشر لهذا العالم الذي ما زال الكثير من سكانه يريد إحلال السلام بدل الحروب المدمرة.