البعد التعليمي في كتاب “عيون البصائر” للعلامة محمد البشير الإبراهيمي: بقلم/ أ. شهيرة بوخنوف

يعد العلامة محمد البشير الإبراهيمي رائدا من رواد الإصلاح التربوي التعليمي في الجزائر فهو لم يكن شخصية عادية، وإنّما كان شخصية عبقرية ومعلما بارزا غزير المعرفة، واسع الأفق ثاقب الفكر، فالحديث عنه حديث ذو شجون، فماذا عساني أقول عنه في هذا المقال المختصر؟ إنه ينطق الألسنة وينصت الأسماع ويلفت الأنظار فالحديث عنه حديث عن أصالة الجزائر وتاريخها وصمودها في وجه الاستعمار الغاشم الذي حاول محو مقومات الجزائر، ولكن الشعب الجزائري الأبي وقف في وجه طموحاته، فتسلحوا بالعلم ولاسيما الذين أسعفهم الحظ فنالوا قسطا من التعليم، وذلك من أجل تربية النشء وتعليمهم. ومن بين الرجال العظام الأفذاذ الذين كانوا نعم اللسان البليغ والبيان الفصيح المعبر عن الجانب التعليمي في الجزائر العلامة محمد البشير الإبراهيمي الذي أسهم في توعية الشعب الجزائري منطلقا من مرجعية التعليم، إذ يرى بأنه ركن أساسي لابد منه لتحرير الشعب الجزائري من قبضة الاستعمار، فكتب عدة مقالات مربيا معلما موجها نصائحه إلى الشباب الجزائري عسى أن يهديه بمقالاته العلمية ويعوض جهله بنور العلم المنير ليفيق من سباته ويتحرر من قيود الاستعمار.
وعليه سنحاول في مقالنا المختصر، التركيز على البعد التعليمي في مقالات العلامة محمد البشير الإبراهيمي المنشورة في كتابه: “عيون البصائر” باحثين عن الإشكالية التالية: هل اهتم العلامة محمد البشير الإبراهيمي -في كتابه “عيون البصائر”- بالبعد التعليمي في عهد الاستعمار الذي كان همه الوحيد هو القضاء على التعلم وإفشاء الأمية بين أفراد المجتمع؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل اهتم بأركان التعليم وأسسه التي اهتمت بها التعليمية؟
من هو الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
قبل الولوج إلى الجانب التعليمي في مقالات العلامة محمد البشير الإبراهيمي نود أن نقف ولو قليلا عند سيرته الذاتية العلمية المنيرة عسى أن يهتدي منا الجيل الناشئ. يقول في سيرته الذاتية التي سماها (خلاصة تاريخ حياتي العلمية) التي كتبها بطلب من مجمع اللغة العربية بالقاهرة عندما أنتخب عاملا فيه سنة 1961 بأن اسمه هو محمد البشير الإبراهيمي ولد يوم الخميس في الرابع عشر من شهر شوال سنة 1306هـ، الموافق للرابع عشر من شهر يونيو سنة 1889م، تُعرف قبيلته بأولاد إبراهيم بن يحي بن مساهل ويرجع نسبها إلى إدريس بن عبد الله الجد الأول للأشراف الأدارسة، موطنه هو السلاسل الغربية المتفرعة من جبل أوراس وموقعها الغرب المائل للجنوب لمدينة قسنطينة عاصمة المقاطعة الشرقية للقطر الجزائري.
حفظ القرآن الكريم ومتون العلم الكبيرة وهو ابن تسع سنين، وتلقى علوم الدين والتربية في بيت أسرته على يدي عمه (الشيخ محمد المكي الإبراهيمي) رحمه الله الذي كان علامة زمانه في العلوم العربية، فحفظ ألفية ابن مالك وألفية ابن معطي الجزائري وديوان الحماسة ورسائل سهل بن هارون… وهلم جرا، فالله قد وهبه حافظة خارقة وذاكرة عجيبة ساعدته في تحصيل العلم، هذا فيما يتعلق بالمرحلة الأولى، أما المرحلة الثانية فهي المرحلة التي مات فيها عمه وهو في السن الرابعة عشر بعد أن أجازه في العلوم التي تلقاها عليه، وقد بدأ في تدريس تلك العلوم التي تعلمها، فتوافد إليه طلاب العلم، وقد بقي على تلك الحال مدرسا إلى أن بلغ من العمر عشرين سنة فاختار الهجرة إلى الشرق وبالضبط إلى المدينة المنورة، وقد مر بالقاهرة فحضر بعض دروس العلم في الأزهر على يدي الشيخ سليم البشري والشيخ محمد بخيت… وتتمثل المرحلة الثالثة في خروجه من القاهرة قاصدا المدينة المنورة فاجتمع بوالده وتعلم عند شيخين بارزين هما: الشيخ العزيز الوزير التونسي، والشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي. أما المرحلة الرابعة فهي المرحلة التي بدأ فيها بالتعليم بالمدارس الأهلية وقام بإلقاء دروس الوعظ والإرشاد بالجامع الأموي ثم دعته الحكومة بعد خروج الأتراك من دمشق إلى تدريس الآداب العربية بالمدرسة السلطانية، وكان مكلفا بتدريس الصفوف النهائية المرشحة للبكالوريا، فتخرج منه عماد الأدب العربي في سوريا أهمهم: الدكتور جميل صليبا والدكتور المحايري والدكتور عدنان الأتاسي… وعندما سنحت له الفرصة عاد إلى الجزائر. وتتمثل المرحلة الخامسة في عودته إلى الجزائر ولقائه بأعلم علماء الشمال الإفريقي (عبد الحميد بن باديس) وفي سنة 1913م بدأ مع عبد الحميد يضعان الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي برزت للوجود سنة 1931م، وقد ترأسها عبد الحميد بن باديس وبعد وفاته انتخب المجلس الإداري للجمعية ورؤساء الشعب البشير الإبراهيمي رئيسا للجمعية. وقد اعتبر هذه المرحلة أهم مرحلة في حياته لأنه استغلها في وطنه ولغته ودينه. وقد قدم إلى مصر وزار باكستان والعراق وسوريا وظل مربيا معلما محبا لوطنه إلى أن وافته المنية في يوم: 20 ماي 1964م رحمه الله. ومن آثاره نجد: “عيون البصائر” وهي مقالات كتبها بقلمه في جريدة البصائر، و”بقايا فصيح العربية في اللهجة العامية بالجزائر” و”أسرار الضمائر في العربية” و”النقايات والنفايات في لغة العرب” و”التسمية بالمصدر” و”الصفات التي جاءت على وزن فعل” و”نظام العربية في موازين كلماتها” و”الاطراد والشذوذ في العربية” و”ما أخلت به كتب الأمثال من الأمثال السائرة”، ورواية “كاهنة أوراس” و”رسالة في مخارج الحروف وصفاتها بين العربية الفصيحة والعامية” وكتاب “حكمة مشروعية الزكاة في الإسلام” و”شعب الإيمان”، ويرى أن أعظم ما دونه هو ملحمة رجزية نظمها في السنين التي كان فيها بعيدا في الصحراء الوهرانية وهي تبلغ ستة وثلاثين ألف بيت من الرجز السلس اللزومي في كل بيت منه.1
رغم كلّ هذه الآثار التي خلفها لأحباب وطنه، إلا أنها في نظره قليلة، يقول: «لم يتسع وقتي للتأليف والكتابة مع هذه الجهود التي تأكل الأعمار أكلا، ولكنني أتسلى بأنني ألّفت للشعب رجالا وعملته لتحرير عقوله تمهيدا لتحرير أجساده وصححت له دينه ولغته فأصبح مسلما عربيا، وصححت له موازين إدراكه فأصبح إنسانا أبيا»2 ومن بين آثاره الكثيرة المتعددة اخترنا كتاب “عيون البصائر” وانتقينا منه المقالات التي لها علاقة بالبعد التعليمي، لأنه هو من أشرف على طبعه في حياته، ومن ثم بقاء تلك المقالات كما هي دون تحوير أو تغيير.
اهتمام العلامة محمد البشير الإبراهيمي بالبعد التعليمي:
يرى العلامة محمد البشير الإبراهيمي أن الثورة ليست سلاحا فحسب، بل هي أيضا لسان ناطق يربي ويعلم، لأن الاستقلال والتحرر لن يتأتى إلا بوسيلته الفعالة المتمثلة في التعليم والعلم «وقد كان الإمام مقتنعا أن ذلك التحرر لن يتم إلا إذا هيئت وأعدت وسيلته فلا يمكن أن «تسبق غاية وسيلة» وما الوسيلة – في رأيه- إلا العلم بأوسع معانيه» 3 فهو يرى أن العلم وسيلة لتحقيق غاية الاستقلال والتحرر من الاستعمار لهذا نجده يعتبر «التعليم «نوعا من الجهاد» ويرى المدارس «ميادين جهاد» ويعتبر المعلمين «مجاهدين» مستحقين لأجر الجهاد، لأن ” التعلم هو عدو الاستعمار الألد» 4 ويعني هذا القول، أن التعليم جهاد في سبيل الله، فهو وسيلة لتحقيق الاستقلال. ولقد حاول محمد البشير الإبراهيمي محاربة كل الآفات التي تعيق العلم وتسد أبوابه في وجه الشعب الجزائري بما في ذلك الاستعمار الروحاني المتمثل بمشائخ الطرق الذي كان يسعى إلى تجهيل الأمة لئلا تفيق بالعلم، فوضع بعد أن كلفه إخوانه أعضاء المجلس الإداري لائحة داخلية تخص أعمال الجمعية، وقد كان من بين تلك الأعمال، أعمال متعلقة بالجانب التعليمي منها 5:
-1 الشروع العاجل في التعليم العربي للصغار؛
2- تجنيد المئات من التلاميذ المتخرجين ودعوة الشبان المتخرجين من جامع الزيتونة للعمل في تعليم أبناء الشعب؛
3- العمل على تعميم التعليم العربي؛
4- مطالبة الحكومة برفع يديها على المساجد والمعاهد لاستخدامها في تعليم اللغة والدين للأمة. وقد خصص بمقاطعة وهران التي كانت عاصمتها القديمة تلمسان، فأحيا بها العلوم حتى أنشأ فيها مدرسة “دار الحديث” فاختار لها نخبة من العلماء الأكفاء للصغار، وتولى بنفسه تعليم الطلبة الكبار المتمثلين في أهل البلد والوافدين، وليس هذا فحسب بل كان يتجول في مدينة وهران ومداشرها المختلفة فيلقي فيها دروسا في الوعظ والإرشاد ومختلف قضايا العلم.6 ورغم اعتقاله من قبل فرنسا ونفيه إلا أن ذلك لم ينقص من عزيمته وإرادته في تعليم الناشئة، إذ لما أطلق سراحه كانت بادرة أعماله إنشاء مدارس، يقول في هذا الصدد: «كانت فاتحة أعمالي تنشيط حركة إنشاء المدارس، فأنشأت في سنة واحدة ثلاثا وسبعين مدرسة في مدن وقرى القطر كلّه، كلّها بأموال الأمة وأيديها واخترت لتصميمها مهندسا عربيا مسلما فجاءت على طراز واحد لتشهد للأجيال القادمة أنها نتاج فكرة واحد»7 ولم ينكر مساعدة الأمة في إنشاء المدارس، يقول: «وتهافت الأمة على بذل الأموال لتشييد المدارس حتى أربت على الأربعمائة مدرسة ولم أتخل بعد رئاستي للجمعية وخروجي من المنفى عن دروسي العلمية للطلبة وللعامة» 8 فرغم انشغاله بأعمال جمعية العلماء المسلمين إلا أنه لم يتخل عن محاضراته ودروسه العلمية التعليمية سواء بالنسبة للطلبة أو العامة، لأن الأمة بالنسبة إليه لا تنهض إلا بالعلم، يقول: «إنك لا تنهضين إلا بالعلم، وإن نهضة لا يكون أساسها العلم هي بناء بلا أساس ولا دعامة» . 9 وقد ركز العلامة محمد البشير الإبراهيمي بمراحل التعليم الابتدائي، لأنه يمثل «مراحل التكوين الأولى للناشئة وعلى أساسها يبنى مستقبلهم في الحياة، فإن كان هذا التكوين صالحا كانوا صالحين لأمتهم ولأنفسهم وإن كان ناقصا مختلا زائفا بنيت حياة الجيل كله على فساد وساءت آثاره 10، فهو في نظره غير كاف يقول: «التعليم الابتدائي وحده لا يكفي هما ولا يشفي ألما، وإنما هو مفتاح للعلم وارتفاع عن الأمية وإن وراءه لدرجات إن لم يؤد إليها كان عقيما وكان عاطلا، وإن للوقوف عنده والقناعة به لآفات، منها زهد الجيل في العلم، وفتور هممه فيه وفساد تصوره له…»11 وما نريد التنويه إليه، هو إن الأستاذ الإبراهيمي قبل أن يكون إماما مصلحا وفقيها أصوليا ومربيا حكيما وسياسيا محنكا، كان أديبا شاعرا وخطيبا مفوها، يهز القلوب ببيان ساحر، يعيد إلى الأذهان ما كان للخطابة العربية من مكانة وسلطان في عهودها القديمة الزاهرة» 13 فالعلامة محمد البشير الإبراهيمي إذن، كان حاملا لمختلف فنون اللغة العربية وآدابها، فهو يرى أن «الأدب والأدباء عنوان العصر ومرآة الجيل، وعلى لهواتهم يتردد تاريخ الأمم والشعوب، ويظل وراءهم خالدا باقيا فلنحرص على أن يكون لقب (الأديب) عنوانا على ذروة الكمال النفسي والفني ولنرتفع بهذا اللقب عن أن يتسمى به من لا يرتفع إلى مستواه…» 14