حديث في السياسة

المهمة الإعلامية والأخلاق/ التهامي مجوري

بين الفينة والأخرى يتصل بنا إخوان من جميع الفئات العمرية، ومن داخل هياكل الجمعية وخارجها، يتساءلون ويستنكرون وينصحون حول ما ينشر من آراء ومواقف تصدر عن أعضاء في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، سواء التي تصدر عن الرئيس، أو عن غيره من الأعضاء..، وهذا التفاعل بمدحه وذمه ورضاه وسخطه أكبر دليل على اهتمام الناس بالجمعية وحرصهم عليها، واقتناعهم بها بوصلة للجزائر وشعبها، هادية إلى صراط الله المستقيم.

وإننا إذ نثمن كل ذلك، بمن في ذلك من أساء الأدب مع الجمعية ورجالها، بسبب رأي لم يعجبه أو موقف لم يرق له أو أمر لم يفهمه، ننبه كل من له عاطفة إيجابية تجاه الجمعية إلى جملة من القضايا قد تخفى عليهم في قراءاتهم العابرة للأحداث ولما يقرؤون ويسمعون ويشاهدون.

أولا: إن جل وسائل الإعلام التي تنشر أو تبث آراء ومواقف رجال الجمعية وغيرهم، إنما تبحث عن الإثارة وكفى؛ لأن ما يهم الصحفي –بل ومن طبيعة مهنته- هو المعلومة المثيرة، وهذا في الإعلام شائع، ولكن رجال الإعلام في ذلك مستويات، فمن كانت له أخلاق عالية فإنه يقرأ ما ينبني على الإثارة من إيجابيات وسلبيات، ومن ثم يكون لكلامه معنى يفضي إلى جلب مصلحة أو درء مفسدة، ومنهم من يفتقر إلى الضابط الأخلاقي -الله يهديه-، فلا يعبأ بما ينجر عن كلامه من مخازي ومهازل ومن آثار بعدية مدمرة.

وقد لاحظنا ذلك في فتوى الشيخ بن حنفية عابدين، المتعلقة بحكم الاحتفال بالمولد النبوي التي نشرتها يومية الشروق. فالشيخ كان رئيسا للجنة الفتوى يومها، وله رأي خاص أعلن عنه منذ سنوات..، وبما أن الإثارة تقتضي الجمع بين المتباعِدَيْن..رئيس لجنة الفتوى والرأي الخاص –الفتوى-.

نشرت الفتوى كذلك حيث قرنت بين اسم صاحب الفتوى وموقعه في الجمعية، رغم أن الفرق واضح من عدة جوانب.

من جهة أن الفتوى المنشورة رأي خاص للشيخ، والرأي الخاص عادة لا تتبناه المؤسسة التي ينتمي إليها إلا إذا أعلن عنه بصفته في المؤسسة.

ومن جهة أخرى، الفتوى استلت من كتاب منشور منذ سنوات، أي ليست له علاقة بالواقع الآني…، وكل ذلك لا علاقة له بالجمعية، وقد نفى هذه العلاقة الشيخ نفسه في توضيح له.

والإثارة من الناحية الأخلاقية لها محاذيرها قد تظلم طرفا أو أطرافا، وقد ترفع طرفا أو أطرافا على حساب غيرهم، وتحمل الجميع ما لم يقولوا وما لم يفعلوا؛ لأن ما ينبني عن هذه التركيبة المتكونة مثلا من “رئيس لحنة الفتوى والفتوى”، أن الجمعية ملزمة برأي رئيس لجنة الفتوى..، فتدخل الجمعية في جدل مع من يخالفها في موضوع لا تعده من أولوياتها..، أو ليست له أهمية أصلا، أو هو من الأمور التي يمكن التغاضي عنها لسبب من الأسباب، ونسبة رأي أو موقف للجمعية لم تتبناه ولم تقره، ظلم لها ونسبة شيء لها لم تقره.

فكل هذه الأمور تدخل في الإثارة التي يبحث عنها الإعلاميون من أجل السبق الصحفي ورفع مستوى السحب..، وهذا المنحى في نشر الأخبار يشبه كثيرا ما يعرف عند علماء الحديث بـ”رواة الغرائب”، ولذلك كان علماء الحديث يردون رواية من اشتهر بالغرائب مظنة تسلل الهوى إلى مروياته؛ لأن الغرائب والأمور المثيرة محببة إلى النفس، ويجري وراءها الفضول جريا.

ثانيا: هناك منهجية متخذة عند فئة من النخبة في تحولاتنا السياسية، تعمل على ضرب كل ما هو وطني وعربي وإسلامي، وذلك بتشويه التاريخ ورجاله والتشكيك في نواياهم، وإثارة البلبلة في أحداثه وزرع الارتياب في الوقائع والمكتسبات الوطنية، وبالنيل من الإسلام بإثارة الخلافيات على حساب الثوابت والمقررات اليقينية..، لتصبح في النهاية الثورة عبارة عن حرب أشعلت وانتهت، لا قيمة سياسية أو أخلاقية أو اجتماعية لها، قادها مجموعة من “لباندية” كانوا ولا يزالون يصفون حساباتهم، والنيل من جمعية العلماء التي هي من البقايا الصالحة للحركة الوطنية، بإشاعة الأكاذيب والأراجيف عنها وعن رجالها من أهداف هذه المنهجية المشبوهة.

ثالثا: هناك مجموعات أخرى ليست أقل سوء من سابقاتها في الآثار المدمرة للمجتمع وهي تعمد إشغال الناس عن اهتماماتهم الأساسية، بما هو دون ذلك من الأفكار والآراء، فينشغلون عن الأكثر أهمية بالسيئ من الآراء والأفكار والمنجزات.

وإذا كان الصحفي معذور بعض الشيء في ما ينشر من أخبار مثيرة؛ لأن أساتذته في الإعلام علموه أن الخبر هو “عضَّ الرجلُ  كلبا” وليس “عض الكلب رجلا”..، ولم يعلموه أن الإثارة ينبغي أن تنضبط بالأخلاق وإلا كانت وبالا على المجتمع.

فإن الغايات الكبرى من إثارة الأقل أهمية على الأكثر أهمية، والاهتمام بما يشغل الناس عن قضاياهم الأساسية في المجتمع، وإرجاء المسائل الحساسة والسياسية منها على وجه الخصوص إلى أن تتميع ولا يبقى لها معنى..، كل ذلك خطر على الأمة، والوسائل التي تحقق كل ذلك بكل أسف هي الإعلام، بالإثارة وتوجيه الرأي العام وتغيير مسار الاهتمامات الجماهيرية…، ولا يهم بعد ذلك أن يكون الخبر صحيحا أو كاذبا أو رأيا يعرض في شكل خبر أو خبر يعرض في شكر موقف…إلخ. والضابط لذلك وجعله خادما للمجتمعات في واقعها ومستقبلها هو الأخلاق يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله مخاطبا الشباب “تسلحوا بالعلم فإنه سلاح العصر، وتسلحوا بالأخلاق فإنها سلاح كل عصر”.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com