تقصيرنا الجسيم في “صناعة المعروف”/ حسن خليفة
يا للهول..!! ماذا ترى أعيننا كل يوم في الواقع الحي المتحرك، وفي نشرات الأخبار في القنوات المختلفة العديدة: وقائع ومشاهد بؤس، وحرمان، وإهمال، وفقر بشع…بشر يعيشون دون مستوى الإنسان احتياجا وسوء حال.
ما هذه الفوارق الكبيرة بيننا في الوطن الواحد، وعلى صعيد واحد..؟ أليس هذا من السوء الذي لا ينبغي أن يكون بين المسلمين. غنى فاحش رهيب، وفقر فاحش رهيب أيضا.
لقد فكرتُ في هذه المسألة دهرا طويلا، فوجدتُ أن جزءا من المشكلة يكمن في تقاعسنا وتقصيرنا في باب من الأبواب الكريمة في الدين وهي “صناعة المعروف”. وعليه فإنني أتصور أن الالتفات ـ بين وقت وآخر ـ إلى ما يتّصل بأدائنا لواجباتنا الدينية والعلمية والتربوية والاجتماعية وغيرها..قد يكون واحدا من الواجبات المؤكدة، لمعرفة مناحي الاختلال واستكشاف مكامن الضعف والوقوف على القصور والتقصير في هذه الناحية أو تلك من نواحي النشاط والعمل، وإنما أعني هنا كل مسلم ومسلمة آتاه الله تعالى يسيرا من العلم والفضل، ويعلم ـ علم اليقين ـ أنه سيكون ممن قال الله تعالى فيهم: {وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}[الصافات: 24]..أي أنه يعرف ويدرك أنه مسؤول ـ لا محالة ـ من الله تبارك وتعالى عن شؤونه وأعماله في حياته كلها.
من وحي هذا المعنى الرهيب (…إنهم مسؤولون) أحببتُ الاهتمام بهذه الفكرة الخاصة بـ “صناعة المعروف” والتي هي حقل عظيم من حقول العمل الصالح الذي يحسنُ بالمرء التقرّب إلى الله تعالى به..فهو ذو شأن كبير، وذو بال عظيم..
وسأذكّر مرة أخرى بكتاب رائع سبق أن عرضتُ له وأشرتُ إلى الاهتمام به وهو كتاب (الدين المعاملة ـ : صفحات من هدي الأسرة الحسنة ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأستاذ الباحث منقذ السقّار). وأذكّرـ أيضا ـ أن الكتاب سفر قويم يمكن الاستفادة منه في إشاعة ثقافة الأخلاق الاجتماعية في الإسلام، ويمكن أن يُتخذ مرجعا في الدروس والمواعظ والمحاضرات ذات الصلة بالأخلاق في مؤسساتنا ومساجدنا ومختلف فضاءاتنا التي نلتقي فيها على ما يرضي الله تعالى .
ما صناعة المعروف؟
صناعة المعروف خصلة جليلة وخُلة كريمة، والمقصود به: خدمة الآخرين وقضاء حوائجهم المختلفة، ونفعُهم بصور النفع المختلفة: كالإطعام، وسقاية الماء، وسداد الديون، أو الإصلاح بين المتخالفين والمتهاجرين، أو بذل الشفاعة والجاه لتسوية مشكلاتهم وردّ حقوقهم ، أو سائر المصالح التي يحتاجها الناس، فكل ذلك يمكن تسميته بـ “صناعة المعروف للآخرين”.
ولا ريب أن كل ما فيه إيصال نفع وتحقيقه لأي مسلم أو مسلمة، يدخل في هذا الباب، ويصل ثوابه الكبير إلى صانعه ويستفيد منه من وصل إليه النفع؛ فردا كان أو مجموعة أو جماعة كبيرة (مجتمع). وإن بذل العلم في أوجهه الطيبة، وتعليم الناس، وتوجيههم ودعوتهم، وكذلك بذل المال وإنفاقه في وجوه الخير المتنوعة المتعددة، كل ذلك هو أيضا من المعروف ومن صناعة المعروف.
ونبيّنا صلى الله عليه وسلم على مدار حياته الشريفة، كان مثالا حيا في هذا الخصوص، صناعة المعروف، فقد كان أكثر الناس نفعا للخلق وهو القائل ـ صلى الله عليه وسلم ـ : عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خير الناس أنفعهم للناس» رواه الطبراني.
والحديث الشريف يكشف أن “خير الناس” هو ذلك الذي ينفع الناس، بما يقدِّمه لهم من نِعمٍ، وما يدفعه عنهم من شرورٍ ونِقم، وما يسعى به في قضاء حوائجهم، والتخفيف عنهم، والوقوف معهم، وعونهم، فمن كان حريصاً على كلِّ ذلك كان من خير الناس وأحبِّهم إلى الله تعالى.
لقد وصف عبد الله بن أبي أوفى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله :” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر الذكر، ويُقلّ اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصّر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة”(أخرجه النسائي ). ولهذا الأمر الجلل والأهمية الكبيرة في صنع المعروف رغّب النبيّ الأكرم صلى الله عليه وسلم في ذلك، لأنها عبادة لا غناء عنها، نحتاجها ـ كمسلمين ومسلمات ـ في منافع الدنيا قبل الآخرة، إذ هي سبب في قضاء حاجاتنا، وتفريج كرباتنا،…قال صلى الله عليه وسلم:”من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كُربة من كربات يوم القيامة، ومن ستَر مسلما ستره الله يوم القيامة” (أخرجه البخاري).
إن الأحاديث في هذا الشأن العظيم تترى وتكثُر، وهي متوفرة في كتب الأحاديث الشريفة، بل لقد كتب بعض المصنّفين، قديما وحديثا كتبا كاملة في صناعة المعروف، تعريفا بأهمية هذا العمل الجليل “صنع المعروف” وتحفيزا للمسلمين والمسلمات على سدّ هذه الثغرة في حياتنا كمسلمين، لابد من وجود أقوام يكثُر أداؤهم في هذا الباب، يعملون فيه ويقدمون فيه ما يسّره الله لهم، قياما بواجبهم الديني والإيماني.
ومن هذا المنطلق وجب التذكير بخطورة التقصير في صناعة المعروف، وخسران وبوار المقصّرين ومن الوعيد العظيم الذي توعّد الله تعالى به المقصّرين من عباده في صناعة المعروف ـ فيما زاد عن حاجتهم ولا يضرّهم نقصه ـ ..ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:”ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم..” وذكر منهم ..”ورجل منع فضل ماء، فيقول الله: اليوم أمنعُك فضلي كما منعتَ فضل ما لم تعمل يداك” (أخرجه البخاري). قال ابن بطال: وفيه عقوبة من منع ابن السبيل فضل ماء عنده، ويدخل في معنى الحديث منع غير الماء وكل ما بالناس حاجة إليه.
إن صوّر صناعة المعروفة كثيرة، وكلها في هذا الباب العظيم من أبواب الإسلام (باب البذل)..والإسلام هو الدين القيّم الذي جاء ليرتفع بحياة الناس ويسمو بنفوسهم وقلوبهم وعقولهم، ويجعل البذل حقيقة من حقائق الحياة السعيدة المتناغمة بالخير الموفور المبذول بينهم، وجريان الفضل سجية في النفس المؤمنة، وهي تذكر الأجور والمثوبة على ما تبذل وتؤدي.
فليتنا نرتقي بعملنا في صناعة المعروف ونجعله أساسا من أسس حياتنا، ونرقى به أكثر فنجعله عملا جماعيا مؤسسيا، يحقق المطلوب ويؤدي هذه الفريضة العظيمة من فرائض الدين “صنع المعروف” على أكمل وأفضل وأجمل وجه. ولو أننا اجتهدنا في إيجاد مؤسسة (فرع إغاثة) في كل شعبة تقوم بهذا الأمر لكان ذلك أجمل تطبيق لصناعة المعروف، تضرب به الجمعية المثل الطيب وتكون نموذج خير للناس.