من أسرار القرآن الكريم / محمد الصالح الصديق
كنا نتحدث في بيتي، في مجلس ضم طائفة من أهل العلم، عن “الدين”، عن حقيقته، وطبيعته، وأن أساسه الاعتقاد القلبي، والإذعان الباطني، فساق أحدهم هذه الآية الكريمة:{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 256].
والآية نص صريح واضح في الموضوع، لا يدعو إلى سؤال، ولا يثير شبهة ولا غموضا، ولكن أستاذا يميل إلى البحث والنظر والنقد، سألني هذا السؤال:
إن الإيمان خير من الكفر، وهذا أمر بديهي، فالإيمان نور، والكفر ظلام، وهذا يقتضي تقديم النور على الكفر، وإذ وقع العكس، فلابد أن يكون لسرّ من أسرار القرآن الكريم، فما هو هذا السر يا ترى؟
فقلت للأستاذ النبيه: أجل إن ذلك لسر من أسرار القرآن حقا، وأنت مشكور على انتباهك له، ولفت النظر إليه، فالقرآن يشير بذلك إلى أن التخلية مقدمة على التحلية، فلا يصح الإيمان إلا بعد التوبة من الكفر، والبراءة من الشرك، ولا يتحقق التوحيد إلا بعد حصول التجريد.
وبعبارة أخرى يجب إفراغ القلب وتخليته من كل ما فيه من أنواع الشرك والكفر، ثم تحليته وملؤه بالإيمان والتوحيد، ومن هنا قال العارفون أطباء القلوب: إن المريد لا يمكنه الحصول على محبة الله تعالى والوصول إلى معرفة حقيقته إلا بعد أن يخلي قلبه من الشواغل، ويفرغه من الأكدار، ويحرره من ربقة الشهوات!
ومن كلام العارف ابن عطاء الله في الحكم: كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته، أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته، وقال في موضع آخر: فرغ قلبك من الأغيار تملأه بالأنوار!
فمن أحبه الله وهداه، أفرغ قلبه من الشواغل والشهوات، وملأه بالإيمان وأناره بنوره.
لما جلس الإمام الشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه، أعجبه ما رأى من وفور فطنته، وتوقد ذكائه، وكمال فهمه، فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية!