الشباب في المعادلة الاجتماعية/ بقلم التهامي مجوري

يتكون كل مجتمع من أربع فئات؛ فئة الطفولة وفئة الشباب وفئة الكهول وفئة الشيوخ، ولكل فئة من هذه الفئات الأربع مهمة فطرية جبل عليها، فالطفولة التي لا يبدو لها دور في الحياة، هي أول مطالب الأبوة بعد الزواج، فالزوجان ربما أول ما يتكلمان فيه بعد تبادل التعبير عن العواطف بينهما، هو إذا كان ولدا ماذا نسميه؟ وإذا كانت بنتا ماذا نسميها؟ لأن عاطفة الأبوة الخاملة عن الشباب تستيقظ بمجرد التقاء زوجين في إطار بناء أسرة، {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا…} [الكهف: 46] ثم تنمو هذه العاطفة بعد الزواج، فيولد الولد ويكون سببا في تهذيب تلك الأبوة بتعليمها أساليب التربية الناجحة والمثمرة؛ لأن الطفولة تعتبر مشتلة ومزرعة للأبوين، وبحكم أن الطفل أناني بطبعه؛ فإن الأبوة ملزمة بالعمل على تهذيب تلك الأنانية وفق ما يخدم الجماعة الأسرية، وإلا صارت الأبوة ضحية من ضحايا تلك الأنانية التي إذا ما ترك لها الحبل على الغارب سوف تكون وبالا على الأسرة وعلى المجتمع بأكمله، ولذلك اعتمدت المجتمعات التربية والتعليم كأفضل المناهج والأساليب لتهذيب سلوك الأطفال لاسيما في السنوات الأولى مع البداية عند إمكانية انفصال الطفل عن أمه؛ لأن المجتمع البشري شعر أن الأسرة وحدها لا تستطيع تنمية الطفل وفق حاجة المجتمع لأسباب يطول ذكرها الآن.
أما مرحلة الشباب وهي المرحلة التي تلي مرحلة الطفولة وهي مهمة أيضا؛ لأنها تتميز بميزة خاصة بها مغايرة لمرحلة الطفولة ومختلفة عنها. ذلك أن الإنسان يتحول في هذه المرحة من الأنانية إلى الاجتماعية، وإذا وصفنا الطفولة بالأنانية، فإن الشاب يغلب عليه طبع الحاجة إلى غيره ممن هم في سنه، سواء في إطار الحاجة إلى زوج له يكمله ويكتمل به أو في إطار مجموعة مؤنسة؛ لأن الشباب في هذه المرحلة يتنازل عن أنانيته لصالح الجماعة لكونه لا يشعر بقدرته على التغلب على الحياة، أو بشعوره بالحاجة إلى آخر يسنده، وإلى جانب هذه الروح الجماعية التي تخرجه عن مجرد كائن متحرك في أسرة إلى عنصر فاعل في المجتمع، وإذا لم يعترف له المجتمع أو الجماعة التي ينتمي إليها بهذا التحول، فإنه سيصنعه رغما عن الجميع بما يملك من طاقة تبحث عن مصارف في الواقع. والشباب في هذه المرحلة لا يخضع لجميع ما تربى عليه في الأسرة، بقدر ما يخضع لجنوحه لروح الجماعة وذلك ليس لعيب فيه أو انحراف طرأ عليه وإنما هو تفاعل مع طبيعته التي خلقه الله عليها، فهو بذلك يختلف عن الكهل الذي يغلب عليه التردد والسلبية بقدر ما فقد من طاقة كان يتمتع بها في شبابه، ويختلف عن الشيخ الذي استنفذ كل ما عنده من طاقة كانت له في شبابه وكهولته، ولم يبق له شيء منها؛ بل إنه يجهد نفسه في الحفاظ على مكاسب قد حققها في مساره الطويل، ولا يرى نفسه مستعد للتضحية بتلك المكاسب التي حققها، وربما سيكون معرقلا لكل ما يهدد مكاسبه.
وكل ذلك من طبيعة هذه المراحل التي جبل عليها البشر، ويمكن تطويعها وتهذيبها بالبرامج الناضجة، بحيث تستفيد من كل هذه الأمور التي تبدو متناقضة، فتستفيد من أنانية الطفل كما استفادت البشرية من ذلك في تطوير علوم التربية، وتستفيد من نضج الكهل وتردده، بقراءته قراءة الحكمة والتريث وليس قراءة الجبن والانكماش، وتستفيد من حكمة الشيوخ التي حكَّتْها التجارب فنمَّتها تنمية طبيعية مكتملة، وكل ذلك لا يكون إلا بعقد جماعي ينزل هذه الفئات منازلها ويضع لها موازين تصب هذه التجارب والطبائع في وعاء واحد متوازن يسمى صالح المجتمع وغاياته الجماعية في العاجل والآجل، وقبل ذلك ومن غير هذا العقد الذي لا يشترط فيه الأشكال “التوثيقية”، لا يمكن أن يفهم الشيخ شابا ولا أن يفهم الشاب كهلا، أما الطفل فغير مستعد للفهم أصلا، ولذلك أجبر الجميع على مراعاة هذا الاختيار واحترامه والتكيف معه، وتمنيت لو أن هذه الفئات تعاملت مع بعضها كما يتعامل الكبار مع الأطفال، واعتبرت كل فئة غيرها أن ما هي عليه الفئة الأخرى هو فطرة فطر الله الناس عليها، لحلت الكثير من المشاكل التي تسببت في مآس تعاني منها البشرية إلى اليوم ومن ذلك ما يعرف بصراع الأجيال الذي هو ليس حتمية في ثقافتنا الإسلامية..
لا شك أننا عندما نختلي بفئة من هذه الفئات، لا نجدها إلا ناقمة على الفئات الباقية، إذ لا يوجد والد أو والدة لا يشتكي من ابنه الطفل وتمرده وطيشه و”هباله”..، ولا يوجد أب لا يشتكي من ابنه الشاب المتمرد الرافض للوصاية والأبوة..، كما لا يوجد شاب لا يتألم للضغط الأبوي الذي يقتل فيه الحرية والموهبة والطاقة الفاعلة، وكذلك في التنظيمات الجمعوية والحزبية، فإن التشاكي فيها هو نفسه وإنما يتحول من تشاكي أبوة وبنوة إلى تشاكي مسؤولين وأتباع أو مؤَطِّرين ومؤَطَّرين، ومع زيادة في التعنت الذي أخذ صورة الاستبداد ومقاومة الاستبداد في الممارسة، فالكهول والشيوخ يرون أن الشباب طائش متمرد على التنظيم رافض للوصاية من الغير، والشباب يرى أن هؤلاء الشيوخ والكهول عقبة في كل تغيير وإصلاح؛ لأنهم يستبدون بآرائهم ويريدون فرضها على غيرهم بالحق وبالباطل.
إن هذه المعادلة الاجتماعية التي يفرضها الواقع والعرف، يمكن تجاوزها عندما نرتقي بمعارفنا إلى مستوى تغليب كفة القيام بالواجب على جرثومة المطالبة بالحقوق على حساب الواجب، حينئذ تعتدل المعادلة الاجتماعية، في إطار يضع كل فئة في موقعها ومع مهامها في الواقع، وفق ما تمتلك من قوة وطاقة مادية ومعنوية، لأن الاستغناء عن أي فئة من تلك الفئات انتحار وإن كان الدور الأبرز والأجدر بالتثمين هو دور الشباب بما له من مزايا وما عليه من واجبات.