ولاية قريش على مكة/ خير الدين هني
“…كانت خزاعة تشرف على رئاسة الكعبة، وكانت قريش حينئذ متفرقة في بني كنانة، وكان كلاب بن مرة قد توفي وترك زهرة وقصيا، وكان زهرة الأكبر سنا، فتزوجت فاطمة بنت عمرو بن سعد ربيعة بن حرام، وكان زهرة حينئذ رجلا بالغا وقصي فطيما (شفاء الغرام، مرجع سابق، 2/ 108).
فلما تم له الزواج بأمهما ارتحل من أرض عذرة إلى أطراف الشام، وأخذت الأم قصيا معها؛ لأنه كان صغيرا أما زهرة فقد تخلف عند قومه، ويروى أن قصيا لما بلغ سن الشباب وقع بينه وبين رجل من قضاعة شيء ما، فعيّره القضاعي بأن يلحق بأهله؛ لأنه ليس منهم، ورجع الفتى إلى أمه وفي نفسه شيء مما قاله القضاعي له، فعرّفته بنسبه وأنه ينتسب إلى كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وهم سلالة الحسب والنسب والشرف والسؤدد، وذكرت له أن قومه يقيمون عند الحرم، فخرج توا إلى قومه في موسم الحج مع حجاج قضاعة حتى قدم مكة، وكان قصي رجلا جليل القدر ذكي الفؤاد، حازما عازما تظهر عليه علامة النجابة والفطنة.
فكانت هذه الصفات الفطرية تجعله يسعى إلى شي ذي أهمية، إنها الإمارة على مكة؛ لكن ذلك لم يكن بالأمر الهين والميسور، لذلك رأى أن يصل إليه بالحيلة وحسن التدبير، فتقدم إلى حُبَّى بنت حليل بن حبشية بن سلول، بن كعب بن عمرو الخزاعي الذي كان يحكم مكة؛ فلما عرف حليل قدر الرجل ومكانته زوجه ابنته، فأنجبت لقصي عبد الدار أكبر إخوته، وعبد مناف، وعبد العزى وعبدا. وكانت حُبَّى تقوم بفتح البيت عندما يعتل أبوها؛ فإذا اعتلت أعطت المفتاح لزوجها قصي أو لبعض أولادها (شفاء الغرام 2، 108. مرجع سابق).
ولما حضرت حليل الوفاة، ورأى ما أصبح لابنته من ولد، أراد أن يترك الأمر في أحفاده من بنته، وحين هلك رفضت خزاعة انتقال الأمر إلى أولاد قصي؛ فأخذوا المفتاح من حُبَّى، ولم يكن قصي بالرجل الخامل الذي يستسلم لخزاعة، فذهب يجمع أمره ويعد العدة لاسترجاع مفاتيح الكعبة؛ لذلك ذهب إلى رجال من قومه قريش، وطلب إليهم النصرة على خزاعة، كما استنجد بأخيه لأمه رزاح بن ربيعة الذي كان يقيم عند قومه بقضاعة؛ فسمع له الجميع وخرجوا في موسم الحج حتّى إذا اجتمعوا بمكة خرجوا للحج، ووقفوا بعرفة وبجمع، ثمّ نزلوا بمنى وقصي عازم على ما صمّم عليه من قتال خزاعة بمن معه من قريش وبني كنانة، ومن قدم عليه مع أخيه رزاح من قضاعة. ولما كانت الأيام الأخيرة من منى بعثت قضاعة إلى خزاعة تطلب إليها تسليم المفاتيح إلى قصي، كيما يمكن تجنب الحرب في الأشهر الحرم؛ فأبت أن يخرج أمر البيت من يدها، فوقع قتال شديد بين الفريقين، حتّى كثر القتلى والجرحى في الفريقين؛ ولمّا آل الأمر إلى هذه الحال، دعت العرب الفريقين إلى الصلح.
وكان قد وقع الاختيار على يعمر بن عوف بن كعب ليصلح بينهم، واختار اليوم التالي للصلح عند الكعبة؛ فلمّا اجتمع الناس حيث اتفقوا، حكم يعمر لقصي بـحجابة البيت وولاية أمر مكة، تنفيذا لوصيّة حليل عند وفاته، وحكم لخزاعة بالبقاء في مساكنها بمكة، ومنذ ذلك اليوم أصبح الأمر كله في يد قصي ابن كلاب؛ فجمع قومه من قريش وأسكنهم مكة، وملّكوه على أنفسهم فكان قصي أول رجل من كنانة أصاب ملكا، فكانت إليه الحجابة والرفادة والسقاية والندوة والقيادة (المرجع نفسه، 2/ 121) وقد تفرقت هذه القيادات في ولده من بعد وفاته…”( في رحاب السيرة النبوية).
أبنــاء قــصي
“روى ابن إسحاق: أنّ قصيا لما تقدمت به السن، رأى ابنه الأكبر عبد الدار دون إخوته في الشرف، وبخاصة عبد مناف الذي شرف في حياة أبيه، وذاع صيته بين الناس، وكان قصي يريد أن يرفع من ذكر بكره عبد الدار؛ فناداه يوما وذكر له أن إخوته فاقوه في الشرف، وأقسم له أن سيلحقه بهم بما يجعله في يده من خدمة البيت؛ لذلك قال له:”لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت الذي تفتحها لهم، ولا يعقد لقريش لحربها إلا أنت بيدك، ولا يشرب رجل من مكة إلا من ساقيتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما إلا من طعامك، ولا يقطع قرشي أمرا من أموره إلا في دارك؛ فأعطاه دار الندوة والحجابة، واللواء والسقاية والرفادة”( المرجع السابق نفسه.2/121).
تولى عبد الدار ملك أبيه، فانتقل إليه كل ما كان في يده؛ فلما مات قصي انحصر الأمر في بني عبد الدار، ولم يرق هذا بنو عبد مناف وبنو عبد شمس، وهاشم والمطلب ونوفل، فنظروا فرأوا أنّ الذي أصبح بيد عبد الدار هم أجدر به منه؛ لأنهم أشرف من بني عبد الدار عند قومهم، وبدأ الخلاف يدبّ في صفوف قريش بسبب انقسامها؛ فرأت طائفة من بني عبد مناف أحقيتهم في الأمر، ورأت طائفة من بني عبد الدار أحقيتهم؛ لأن قصيا ورّثهم إيّاه، ولقد اشتدّت الخصومة واحتدم الخلاف، حتى كادت الحرب تقع بينهم لولا أن دعوا إلى الصلح فاستجابوا له؛ فأُعطي بنو عبد مناف السقاية والرفادة، وأعطي بنو عبد الدار الحجابة واللواء والندوة.
ورضي الطرفان بهذه القسمة العادلة، واطمأنــت نفوسهم بها؛ لأنــها أبعدت عنهم شبـح حرب كانت وشيكة الوقوع، ويمكن أن تهلك قريشا وتنسف وجودها، ويقع لها ما وقع لخزاعة من قبل، وكان من تولى السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف؛ لأنه كان رجلا موسر الحال، وهاشم هذا هو الذي سَنَّ رحلتي الشتاء والصيف، وهو من عقد معاهدات عدم اعتداء مع القبائل التي كانت تنزل بالقرب من طرق القوافل لتأمين قوافل التجارة، وهو أول من أطعم الثريد بمكة، وقد زعموا أنه سمي هاشما؛ لأنه كان يهشم الخبز لقومه بمكة، فغلب هذا اللقب على اسمه الحقيقي عمرو، لذلك قال فيه أحد الشعراء:
عـمـرو الذي هشـم الثـريد لقومـه * قـــوم بــمكــة في سنين عــجاف
سنت إليه الرحـلتـان كلاهـمـــــا * سـفـــر الشــــتاء ورحلة الأصياف
ثُمَّ انتقلت السقاية والرفادة بعد هلاك هاشم إلى المطلب بن عبد مناف، الذي يصغر عبد شمس وهاشما (شفاء الغرام مرجع سابق)، وكان رجلا ذا شرف ومكانة في قومه؛ لذلك كانوا يسمّونه (الفيض)؛ فلما هلك ولي الأمر بعده عبد المطلب بن هاشم، وقد بلغ فضله وشرفه في مكة قدرا لم يصل إليه أحد من آبائه.. (في رحاب السيرة النبوية).