قضايا و آراء

آراءٌ حول الاحتفال بالنّاير في الجزائر/ محمّد بن حامد بومشرة السّنوسي

 

مقدّمة:

هي محاضرة ألقيتها بدعوة من المتحف العمومي الوطني بمدينة تلمسان بالمناسبة نفسها المتزامنة مع ترسيمها في قائمة الأعياد الوطنية. وكعادتي قمت بالبحث لأقدّم الجديد للحاضرين من خلال عرض آراء أساتذة ودكاترة جامعيّين حول الموضوع؛ وقد طرحت الإشكالية عليهم فيما يخصّ أقوال العلماء الزّيّانيّين في الاحتفال بهذه المناسبة، فوعدوني بالبحث العميق.

توطئة:

فضّلت أن ألج الموضوع بكلمة فضيلة الشّيخ الهمام محمّد البشير الإبراهيمي رحمة الله تعالى عليه يقول:” في هذا الوطن الجزائري شعب عربي مسلم، ذو ميراث روحاني عريق، وهو الإسلام وآدابه وأخلاقه. وذو ميراث مادّي شاده أسلافه لحفظ ذلك التّراث، وهو المساجد بهياكلها وأوقافها، وذو نظام قضائي مصلحي لحفظ تكوينه العائلي والاجتماعي، وذو منظومة من الفضائل العربية الشّرقية متنقّلة بالإرث الطّبيعي من الأصول السّامية إلى الفروع النّامية لحفظ خصائصه الجنسية من التّحلّل والإدغام، وذو لسان وسِع وحي الله، وخلّد حكمة الفطرة، وجرى بالشّعر والفنّ، وحوى سرّ البيان، وجلا مكنونات الفكر، ثمّ خدم العلم، وسجّل التّاريخ، وشاد الحضارة، ووضع معالم التّشريع، وحدا بركب الإنسانية حينا فأطرب! حافظ هذا الشّعب على هذا التّراث قرونا تزيد على العشرة، وغالبته حوادث الدّهر عليه فلم تغلبه، وما كان هذا الشّعب بدعا في الاحتفاظ بهذه المقوّمات، لا يستنزلها عنها إلاّ من يريد أن يهضمها قبل الأكل: ليهضمها بعد الأكل، كما يفعل وعّاظ الاستعمار، ومشعوذو السّياسة، لتخدير الأمم المستضعفة فيُقبّحون العنصرية وهم من حُماتها، ويزيدونها في الجنسية وهم من دُعاتها”.[اهـ عيون البصائر- ص:13].

مدخل:

النّاير من تقاليد وعادات كلّ الجزائريّين إحياءً للتّاريخ الأمازيغي الضّارب في أعماق الهُوية الجزائرية قديما على الرّغم من الاختلاف في طريقة الاحتفال به من منطقة لأخرى، والاحتفال بهذا اليوم لا علاقة له بأيّ احتفال ديني أو تعبّدي. ويبقى سببُ الاحتفال بهذا اليوم بين مؤيّد ومعارض عند أساتذة ودكاترة متخصّصين في علم الاجتماع والتّاريخ والشّريعة، كلٌّ ودليله من الأمازيغيّين والعرب الذين جمعهم الإسلام دينا ونسبا، والأعراف التي لا تخالف العقيدة الإسلامية بحيث استطاعوا مع مرور الزّمن المحافظة عليها..فالذين يؤيّدون الاحتفال يعدّونه احتفالا برأس السّنة الأمازيغية التي توافق اليوم الثّاني عشر من السّنة الميلادية (12 جانفي).

ويناير كلمة مركّبة من “ين” التي تعني واحد، و”ير” التي تعني الشّهر، وبالأمازيغية هي “إخف أوسقاس”.

الآراء:

يرى الدّكتور محمّد أرزقي فرّاد باحث في الثّقافة والتّراث الأمازيغيّين في قناة عربية:

“أنّ مناسبة النّاير تحمل دلالات روحية واجتماعية واقتصادية وتاريخية، ويفصل في ذلك بالقول “روحيا” كان النّاس قبل ظهور الإسلام في عيد يناير يعملون من أجل ترضية الآلهة والأرواح المخفية؛ وعندما جاء الإسلام ألغى هذا الجانب. لكن بعض رواسبه مازالت في المجتمع حتّى اليوم. أمّا اجتماعيا فهو عيد يجمع أفراد الأسرة حول عشاء تقليدي، واقتصاديا كان الأجداد يأتون بأغصان الأشجار الخضراء تيمُّنا بمحصول زراعي جيّد، بينما تاريخيا فهو تذكير بغزوة الملك الأمازيغي شاشناق لرمسيس الثّاني فرعون مصر سنة 950 قبل الميلاد، الذي استطاع أن يؤسّس الأسرة الفرعونية الثّانية والعشرين في مصر”.

ويُضيف الدّكتور:”وشاشناق هذا وصَل إلى أورشليم (القدس حاليا) وانتصر هناك على العبرانيّين اليهود”. اهـ

فهناك باحثون يعدّون التّقويم الأمازيغي هو الأقدم الذي استعمله البشر على مرّ العصور منذ 2958 سنةً، الموافق لـ: 2018 ميلادية. ولا علاقة للتّقويم الأمازيغي بالتّقويمين الميلادي نسبة لمولد المسيح عليه وعلى نبيّنا السّلام، والهجري نسبةً لهجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعدم ارتباطه بأيّ حدث ديني أو تعبّدي.

ومن جهتي أفتح المجال للحديث عن الفتح الإسلامي العظيم بقيادة خير أمّة أُخرجت للنّاس رضي الله تعالى عنهم أجمعين، كما جاء في كتاب تاريخ الجزائر في القديم والحديث للشّيخ محمّد مبارك الميلي أنّ الأمّة الجزائريّة كانت تعيش في ضلال عقائدي أي كانوا وثنيّين منهم من يعبد النّار أو الشّمس وآخرون مسحيّون. وبقيت خرافة عبادة الشّمس عندنا حتّى أنّ بعض المناطق في القرن العشرين الميلادي كان الأولياء يقولون لمن قلع ضرسه أو سنّه من أحد أولادهم أنْ يتّجه نحو الشّمس ليرميها نحوها قائلا لها: يا شمس، خذي سنّ الحمار وأعطني سنّ الغزال! على الرّغم أنّ الفاتحين جاءوهم بعبادة الله الواحد الأحد، وصحّحوا لهم عقيدتهم، ناهيك عن علماء كلّ عصر ودورهم في التّوعية والإصلاح.

وكذلك الصّحابيّ الجليل عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه فاتح الشّام ومصر مارا بمدينة العريش الواقعة في أرض سيناء شمالا على ساحل البحر، تبعد غزّة بأربعين كيلومتر شرقاً والقاهرة حوالي خمسمائة كيلومتر غرباً لينشر الإسلام عن علم ومعرفة، بدون استعمال السّلاح. فوجد أهل العريش يحتفلون بمناسبة ما، فقالوا للقائد عمرو رضي الله تعالى عنه (المساعيد)، فاستفسرهم فقالوا له: إنّ لديهم عيدا مساءً بمعنى المساء عيد، فحضر معهم الاحتفال؛ وبقي السّكّان يحتفلون بالمناسبة إلى يومنا هذا وسمّيت القرية بالمساعيد.

واقتدى الفاتحون بالحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم يوم حضر رفقة السّيّدة أمّنا عائشة رضي الله تعالى عنها حفل الحبشة وهم يرقصون بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. لأنّ الحبشة لم يفعلوا ذلك على سبيل التّعبّد، وإنّما كان رقصهم بالحراب فيه نوع من إظهار الشّجاعة والقوّة ليذكّرهم بالانتصارات؛ كرقصة العلاوي بأولاد النهار أقصى غرب الجزائر، تعبّر عن ارتباطهم بالأرض والتحامهم بها، ويرفضون كلمة رقصة العلاوي بل لُعبة العلاوي؛ وكذلك اللّعبة بالسّيوف عند إخواننا التّوارق.

قال صلّى الله عليه وسلّم فيما يخصّ المعاملة والتّعامل مع كلّ أمر يدعو للفضيلة والصُّلح والإصلاح ولو مع غير المسلمين بمناسبة حلف الفضول وكان قبل بِعثته في العقدين من عمره عليه الصّلاة والسّلام:”لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهِ حُمْرَ النّعَم،ِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْت”. رقم الحديث: 12110 (حديث مرفوع) أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ  وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي قَالا: حدّثنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حدّثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّار، حدّثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ.

وهذا الأستاذ محمّد بن رمضان شاوش كتب عن الاحتفال بالنّاير بتلمسان في كتابه: باقة السّوسان في التّعريف بحاضرة تلمسان الجزء الثّاني الصّفحة 52، الطّبعة الثّانية بمناسبة تلمسان عاصمة الثّقافة الإسلامية 2011 ديوان المطبوعات الجامعية؛ مصنّفا النّاير في المواسم غير الدّينية:

“وهناك موسم ليس بدينيّ وإنّما جرى به العُرف وتعوّد النّاس الاحتفال به كلّ سنة شمسيّة ويدعونه (النّاير) أو رأس العام يقع هذا الموسم في يومي 12 و13 من شهر جانفي، ويسمّى اليوم الأوّل يوم نفقة الكرموس أي التّين، والثّاني يوم نفقة اللّحم. ففي اليوم الأوّل تعجن الأمّهات لأولادهنّ قرصا من الخبز وتُثبّت فوق كلّ قرصة بيضة تُشبّكها بالعجين حتّى لا تسقط. وبعد ذلك تعجن وتُقلى الفطائر المعروفة عندنا بالسّفنج..

أمّا الآباء فيشترون في ذلك اليوم من السّوق الثّمار اليابسة من كرموس وتمر وزبيب وجوز ولوز وغير ذلك كالرّمّان والتّفّاح، وفي المساء تجتمع الأسرة حول المائدة ويكون عشاء بالفطاير المغمّسة في العسل وبالثّمار اليابسة التي تُجعل في طبق كبير فوق المائدة ويختار الآكلون ما شاءوا منه.. أمّا الأطفال الصّغار فيُجعل لكلّ واحد منهم سلّة صغيرة تُوضع فيها قرصة ونصيب من الثّمار اليابسة التي يدعونها قشقشة”. اهـ

أمّا الاحتفال بالنّاير بمنطقة بني مزاب فكتب الأستاذ جابر بن باسعيد بن موسى الحاج سعيد كتابا بعنوان تاريخ بني مزاب للجلسات العائلية والدّروس التّعليمية، الصّفحة 183 و184 الطّبعة الأولى 1437/2016، طُبع بطيف للطّباعة والفن والخدمات بغرداية –الجزائر- مُصنّفا الاحتفال بالنّاير في الجانب الاجتماعي:

“ونُسجّل فيه ما يأتي: إينَّاير (يناير/جانفي) على رأس كلّ سنة أمازيغيّة وهي في 12 جانفي من كلّ عام ميلادي، تحتفل العائلات المِزابية على غرار باقي الأمازيغ بعامهم الجديد، ويوافق في 2016 عام 2966.

وجرت العادة في مزاب طبخ طعام (أرفيس) أو غيره خلال هذا الاحتفال، إلى جانب قصّ نكتٍ وإنشاد أهازيج فيها طلب الله الخير في العام الجديد.” اهـ

والشّعب الجزائري منذ قرون يحتفل بهذه المناسبة بطريقته يأكل أنواع المكسّرات وفواكه الموسم على الرّغم من غلائها في الأسواق العمومية؛ كما يحتفل بالمولد النّبوي الشّريف، ويوم العلم وأوّل نوفنبر والخامس يوليو وغيره..كما لا يفوتني كان معلّمو اللّغة العربية يكتبون على السّبّورة شهر يناير خلافا ونكاية لشهر جانفي.

وهناك بعض الإخوة خالفوني الرّأي –عن طريق الفايسبوك- حجّتهم: “أنّ ناير هو يناير بالرّومانية الأصلية لشهر (جانفي) كان الرّومان يسمّونه منسوس ينايرسMensis Ianuarius) ) التي تعني بالعربية (شهر يناير) وقد اشتقّوا تسمته من اسم ربّهم الوثني “ينايريوس” وهو إله الآلهة الرّومانية يعني ربّ الأرباب ومن معاني اسمه الباب أو الدّخول، وهنا يقصد بها باب العام الجديد تمجيدا لإله الرّومان يانوا ينايريوس- Ianus. Ianuarius-  الذين كانوا يعتقدون أنّه رب (البدايات والنّهايات) .. الإله ذو الرّأسين المتحكِّم في السّنة الفلاحية وفي خصوبة الأراضي…حيث هناك صورة من المتحف البريطاني لإله ينايريوس يانوا جالس فوق السّحاب يمسك مفتاح الباب الجديد أو السّنة الجديدة ويحمل مرآةً يرى فيها مستقبل السّنة وهذا هو التّنجيم مكتوب عليها 365 يقصد بها الأيّام والأبراج السّنوية.” اهـ

لكن هذه الشّهادة التي يعتمدون عليها من الغرب الذي يحبُّ الخلط في أوراقنا وعاداتنا باسم الدّين بدون حجّة مقنعة متجاهلين رأي علماء الأمّة الإسلامية. هذا والله أعلى وأعلم.

أخيرا، وخلاصة القول للدّكتور نصر الدّين بن داود أستاذ بقسم التّاريخ جامعة تلمسان:”يبدو سكوت علماء تلمسان أنّهم طهّروا هذا الاحتفال من بعض المعتقدات الفاسدة والخرافات والأساطير، وأبقوه احتفالا اجتماعيا يلتقي فيه أفراد العائلة ثمّ تُحضّر أطباق خاصّة للأكل… والأرجح أنّ المناسبة ذات بُعد اقتصادي بداية الموسم الفلاحي، مع بعض التّحفّظات على قصّة شاشناق.” اهـ

تلمسان: الخميس 23 جمادى الأوّل 1439 هجرية، الموافق لـ: 11 يناير 2018.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com