القبائل التي سكنت مكة/ خير الدين هني
مكة منطقة صخرية تعلو سطح البحر بـ 277م، وهي عبارة عن سلسلة من الجبال ذات صخور غرانيتية شديدة الصلابة، مساحتها الإجمالية 850كلم مربعا، منها 88 كلم مربعا مأهولة بالساكنة، تقع عند تقاطع درجتي العرض 21/25 والطول 39/49 شرقا، في جنوب غرب المدينة المنورة على بعد 400كلم منها، وتبعد عن جدة بـ 72كلم، وعن الطائف شرقا بـ 120كلم، تنحصر بينها أودية وشعاب، منها ذاك الوادي الجاف الذي بارك الله فيه وحوله، وقد اختارته العناية الإلهية ليكون مكانا مباركا يقام فيه بيت الله الحرام الذي سيكون مثابة للناس وحرما آمنا لمن يريد أن يطعم فيه من جوع ويأمن من خوف.
ولم تكن منطقة مكة آهلة بالساكنة، لجفافها وقحالتها وخلوها من منابع الماء والسهول الخصيبة، إلا أنها كانت محطة عبور تنزل فيها قوافل التجارة عبر طريق تهامة من الشام إلى الجنوب أو شرقا نحو الحيرة وغيرها، وظلت هكذا أرضا غير مأهولة إلى أن نزل بها إبراهيم مع ابنه إسماعيل وهاجر وانفطار بئر زمزم المباركة في القصة المعروفة.
وكانت قبيلة جرهم تقيم على ماء بشعاب إحدى ضواحي مكة، بعد نزوحها من اليمن على التحقيق الراجح لدى ثقات المؤرخين، ولما تفجرت مياه زمزم قدموا إلى الوادي حيث تقيم هاجر مع صبيها الميمون، والتمسوا منها أن تأذن لهم بالنزول بجوارها دون أن يقاسموها ماء زمزم، وعلمت أن دعوة إبراهيم استجيب لها وأخذت تتجسد أمام عينيها، وترعرع إسماعيل في جوارهم خير جوار، فلما صار شابا يافعا تزوج منهم، وأنجب اثني عشر ولدا كانوا هم سادة العرب وأشرافهم، وكان إسماعيل يشرف على خدمة البيت بنفسه، فلما توفي خلفه ابنه نابت فلما توفي انتقل الأمر إلى مضاض بن عمر الجرهمي جد نابت لأمه، وظل أمر خدمة البيت في يد قبيلة جرهم لزمن طويل، وزاد من نفوذهم على البيت أن تغلبوا على بني عمومتهم قطراء في حرب دارت بينهما، وقد كانوا يقيمون بأحد سفوح جبال مكة، وناصر بنو إسماعيل جرهم لخؤولتهم، وانتهت المعركة بقتل السميدع سيد قطراء، وانتهى الأمر بعد الصلح إلى مضاض فأصبح منذ ذلك اليوم السيد المطاع في مكة بدون منازع.
ظل بنو إسماعيل عليه السلام يقيمون بمكة، تحت إمرة أخوالهم ولم ينازعوهم الحكم لخؤولتهم، وعظم البيت وما حوله بحرمة الله، وأحيط بهالة من الإجلال والتقديس والتعظيم بوصية إسماعيل لأبنائه، لذلك كانوا يمسكون أنفسهم عن البغي والقتال من أجل متاع الحياة، استمروا على تلك الحياة الهادئة آمنين مطمئنين، فلما تكاثروا تفرقوا في الأرض بحثا عن مصادر الرزق.
خزاعة: ولما كانت الطبيعة البشرية تنزع بالجنوح نحو البغي والبطر والضلال، حين تفتح عليهم الدنيا ويصيبون من خيرها الكثير من النعيم، ويكنزون من الفضة والذهب فوائض أموالهم، فيلجأون إلى البغي على الناس وعلى المستضعفين خاصة، ويستحلون أموالهم ودماءهم وأعراضهم، وهذا ما فعلته جرهم عندما طال عليها الأمد بمكة، فبطرت وأكلت أموال الكعبة التي يهديها الحجاج وبغت على الناس، وساء بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة وغبشان ما صارت تفعله جرهم من ارتكاب المظالم في حرم الله، فجمعوا لقتالهم وإخراجهم من مكة، وتم لهم النصر بإجلائهم عن مكة، وفي رواية لابن إسحاق، أن عمرو بن مضاض سيد جرهم، حينما رأى فساد قومه وجورهم على الناس، وعلم أنهم سيغلبون عمد إلى غزالتي الكعبة وحجر الركن فدفنهما في بئر زمزم، وفي ظنه أنه سيعود في يوم ما إلى مكة حينما يتاح له النصر بجمع قوته وإعادة تنظيمها، ثم خرج مع قومه إلى اليمن في يوم كان عليهم نكدا وحسرة، وتركوا أمر البيت إلى غبشان وهم قوم من خزاعة ليتولوا أمر البيت، وقد توارثوه دهورا طويلة. وجاء في كتاب (شفاء الغرام ص 2/ 78)، أن خزاعة حكمت مكة ثلاثمائة سنة، وقال آخرون خمسمائة سنة، وكانوا هم حجابه وخزانه.
… “وكان أول من حكم من خزاعة على المشهور عمرو بن لحي الخزاعي (المرجع نفسه2/82 )، الذي لم يَحُزْ عربي قبله ولا بعده شرفا مثله في الجاهلية، وهو الذي قسّم بين العرب في حطمة (دفعة واحدة) حطموها عشرة آلاف ناقة، وكان أول من أطعم الحجاج بمكة سدائف الإبل، (شحم حدبة الجمل) ولحمها على الثريد (الثريد خبز يفت في مرق اللحم) وهو الذي بحر البحيــرة، ووصل الوصيلة وحمى الحمى، وسيّب السوائب ونصب الأصنام حول الكعبة…”( المرجع نفسه). ( في رحاب السيرة النبوية).
“وكانت خزاعة أول من أخرج إسافا ونائلة من الكعبة ووضعهما على زمزم، ويروى أن قيس بن عيلان أراد أن يخرج خزاعة من مكة، بعد وفاة عمرو بن لحي ومجيء كعب بن عمرو؛ فقد اجتمعت قيس تحت لواء الضرب العدواني، ثمّ توجهت إلى خزاعة بمكة، ووقع بينهم قتال هزمت فيه قيس، وبذلك مُكِّن لخزاعة أن تقوم على مكة دهرا طويلا، وذكر ابن عبد البرّ في أحد كتبه شيئا من فضل خزاعة، نذكر بعضا منه، يقال لخزاعة: حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنّهم حلفاء بني هاشم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أدخلهم في كتاب الصلح عام الحديبية، وأدخلت قريش بني بكر، ووقعت حرب بين خزاعة وبكر فأعانت قريش حلفاءها من بني بكر؛ لأنهم نقضوا العهد الذي أبرموه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، في صلح الحديبية، وكانت هذه الحادثة سببا في فتح مكة، وخزاعة هي التي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم، منـزلة لم يمنحها لغيرها من القبائل؛ ذلك أنّه جعلهم مهاجرين في أراضيهم، وكتب لهم بذلك كتابا”( …في رحاب السيرة النبوية…).
قـريش: قال محمد بن إسحاق الفاكهي:(مؤرخ عربي مكي المولد والنشأة تـ 272 هـ) “حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعد، قال: حدثنا إسحاق بن البهلول، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن القرشي، عن ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد مناف عز قريش، وأسد ركنها وعضدها، وعبد الدار رئتها وأوائلها، وعدي جناحها، ومخزوم ريحانتها وأراكتها، وجمح وسهم عديدها، وعامر ليوثها وفرسانها، والناس تبع لقريش، وقريش تبع لولد قصي” ( في رحاب السيرة النبوية).
أحببت أن أصدر الحديث عن هذه القبيلة الشريفة التي ينتهي نسبها إلى عدنان بن إسماعيل عليه السلام، وهو حديث يروى في وصف بطون قريش، والعرب كانت كلفة بحفظ أنسابها وأحسابها، لتتفاخر بها في حروبها وأيامها وأنديتها وأماكن لهوها، ولكي يسهل عليها الحفظ جعلت التمييز في تراتبية النسب ضمن روابط في النسب جعلها النسابون في ست طبقات، وزاد عليها آخرون، ورتبوا هذه الطبقات من الأكبر إلى الأصغر وهي: الشعب، القبيلة، العمارة، البطن، الفخذ، الفصيلة. فمثال الشعب، مضر، ومثال القبيلة كنانة، ومثال العمارة قريش، ومثال البطن بنو قصي بن كلاب، ومثال الفخذ بنو هاشم، ومثال الفصيلة العباس بن عبد المطلب. وفي هذا الموضوع نظم محمد عبد الرحمن الغرناطي مقطوعة شعرية في ترتيب طبقات النسب.
الشعب ثم قبيلة وعمارة ** بطن وفخذ والفصيلة تابعة
فالشعب مجتمع القبيلة كلها** ثم القبيلة للعمارة جامعة
والبطن تجمعه العمائر فاعلمن** والفخذ تجمعه البطون الواسعة
والفخذ يجمع للفصائل هاكها**جاءت على نسق لها متتابعة
فخزيمة شعب وإن كنانة ** لقبيلة منها الفصائل شائعة
وقريشها تسمى العمارة يا فتى** وقصي بطن للأعادي قامعة
ذا هاشم فخذ وذا عباسها ** أثر الفصيلة لا تناط بسابعة
فهذه القبيلة العريقة كان لها شرف عظيم في الجاهلية والإسلام، لا يماثله شرف في قبائل العرب قاطبة، وقريش تعود في أصولها إلى فهر بن مالك، وقد اختلفوا في سبب تسميتــها بقريش، فقيــل:”أخذت الكلمة من التقرش، وهي تعني أن التقرش يدل على معنى التجمع، وقيل: أخذت الكلمة من دابة القرش التي تعيش في البحار وهي ملكة البحار وسيدتها، وقد سميت قريش بهذا الاسم تعظيما لشأنها ورفعة لها؛ لأنها كانت سيدة العرب وخادمة البيت، وهناك أسباب أخرى كثيرة لست في حاجة إلى ذكرها؛ لأنني اقتصرت على المشهور الذي يفي بالغرض، واختلفوا أيضا في من أطلق عليه أولا هذا الاسم، فقيل كان قصي أول من أطلق عليه هذا الاسم، وقال السهيلي: إن هذا الاسم كانت تعرف به قريش قبل مولد قصي”(في رحاب السيرة النبوية). واستشهد لصحة ذلك بقول كعب بن لُؤي، حيث قال: إذا قريش تبغي الحق خذلانا، وقال أبو الخطاب في تسمية قريش:”ومن أول من سمي بذلك الاسم عشرين قولا” (انظر تفصيل ذلك في شفاء الغرام، 2/106).