في رحاب السنة

دراسات في السيرة النبوية/ خير الدين هني

رحلة إبراهيم مع ابنه إسماعيل إلى الأرض المباركة

قصة إسماعيل مع أبيه إبراهيم عليهما السلام في رحلتهما الشاقة والطويلة، من فلسطين بالشام إلى البقعة المباركة بمكة المكرمة، جسدتها ملحمة تاريخية سجلتها تدوينات علوية عبر ترنيمة دينية بقيت تروى أحداثها منذ خمسة آلاف سنة، وستبقى تروى هذه القصة المقدسة بين الأجيال عبر تواريخ لاحقة إلى أن يأتي يوم فناء الحياة الدنيا.

فلما انتهت الرحلة إلى واد غير فسيح، تحيط به جبال متصل بعضها ببعض في سلاسل متحنية تعلو قممها في غير علو شاهق، وقد انفرجت انفراجا غير يسير، لتترك أربعة منافذ هي فجاج ليعبر منها واردة الناس بوردهم، أو لاجتيازها بقوافلهم مغربين ومشرقين، وفي وسط ذلك الوادي كانت توجد عليه رابية قد ربت على قواعد من صخور، فإذا انحدرت السيول من القمم في المواسم انحازت عن يمينها وشمالها، وتركتها جاثية رانية من غير أن تصيب منها شيئا، وكأن احتباس تلك الرابية في مكانها كان أمرا مقدورا بمشيئة عليا، قدرت أمرها تقديرا أزليا، ليكون  لها شأن عظيم في قابل أيام المؤمنين من أمة خير الخلق أجمعين.

فلما وطئت أقدام الشيخ الوقور مع ابنه البار المبرور تربة الوادي المقدس، كانت الإرادة العلوية قد أصدرت أمرها لذلك الشيخ الوقور ليترك ابنه وأمه في تلك البقعة المباركة، وقد بُشر بأن عناية السماء ستحيطهما بوافر الرعاية والعناية وسوف تغدق عليهم بعميم الخير والبركة، وأنها ستهدي إليهما أفئدة من الناس ليساكنوهما ويؤانسوهما ويتدبروا أمر الحياة معهما، فلما اطمأن قلب الأب الرحيم انصرف وتركهما وحدهما على تلك الرابية، ينتظران قسمات الرحمة من العلي القدير تجلت قدرته وتقدست كلماته. فلما نفد الزاد ونضبت الشنة انتابت هاجر الحيرة فصعدت على جبل الصفا وأخذت في غدو ورواح بينه وبين جبل المروة، وكأنها كانت تبحث عن شيء ما أو ترى جمعا من الناس تستغيث بهم، ثم نظرت وحملقت وأخذت تجيل النظر حيث تركت صبيها، فإذا بشائر الخير تحوم على إسماعيل الصبي، وهي طيور بيض لا تحوم إلا على منابع  الماء، فلما تفحصته وجدت الماء قد انفجر من تحت قدميه، فأخذت تزمّه كيما تحبسه عن الجريان، وكانت هذه بداية قصة انشقاق بئر زمزم التي قاسمتها إياها قبيلة جرهم التي كانت تقيم غير بعيد على ماء في إحدى سفوح جبال مكة.

فلما بلغ إسماعيل سن الشباب أصهر إلى قبيلة جرهم مرتين بعد تسريح الأولى بأمر من والده حين زاره وهو غائب في رحلة صيد، وقد اشتكت وتذمرت من ضيق العيش وخشونة الحياة وشظفها، ومن الثانية (رعْلة بنت مضاض بن عمرو كبير جرهم وسيدهم) أنجبت له اثنا عشر ولدا هم أجداد العرب العاربة الذين تفرقوا في أرض الحجاز بعد أن ضاقت بهم مكة وتهامة وما جاورهما، ومن ابنه عدنان انحدرت قريش ومن قريش بنو هاشم قوم النبي صلى الله عليه وسلم.

قصة الفداء الشهيرة

ابتلي إبراهيم عليه السلام من ربه ليكون قدوة لمن يأتي بعده من المؤمنين المبتلين، ابتلي في حشاشة قلبه إسماعيل عليه السلام، الذي جادت به العناية الإلهية بعد انتظار ويأس طويلين، لازما الشيخ الوقور وقتا غير يسير، وكان إسماعيل عليه السلام قد ملأ على أبيه الحياة بالغبطة والسرور، وبعد ولادته بثلاث عشرة سنة ولد إسحاق عليه السلام من سارة عليها السلام، وقد وقع بين سارة وهاجر التي كانت سُريَّة (جارية مُستوهبة من سارة لإبراهيم بعدما يئست من الإنجاب) بعد ولادة إسماعيل ما يقع بين الضرائر أو بين الضرائر والسَّراري، لأن سارة أخذها شيء من الغيرة من هاجر، فساء الحال بينهما فجاء الأمر من السماء إلى إبراهيم بأن يأخذ هاجرا وصبيها إلى الأرض المباركة، لتبدأ رحلتهما الشاقة في تسجيل أحداث جديدة في تلك البقعة الميمونة، لقد اختُبر إبراهيم عليه السلام بكثير من الاختبارات، اختبر بجبروت نمرود وطغيانه وقذفه في نار محرقة، واختبر بالترحال في الأرض من مكان إلى آخر، واختبر بعقم زوجته سارة، واختبر بأخذ ابنه الوحيد وأمه هاجر إلى مكان بعيد في أرض قاحلة مجدبة لا حياة فيها ولا مأوى ولا أنيس، واختبر أخيرا ببلاء عظيم؛ ذلك أنّه أراه في المنام بأن يذبح ابنه، وتكررت الرؤيا ثلاث مرات متواليات، فعلم إبراهيم عليه السلام يقينا، بأن هذه الرؤيا وحي من الحق سبحانه؛ لذلك قصّ رأياه على ابنه إسماعيل، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات:102].

ولقد اختلفت الروايات اختلافا كبيرا في تحديد الذبيح، هل هو إسماعيل أم إسحاق، وأخرج الواحدي بسند صحيح أن القصة كانت بالمنام، والذي أمر الله تعالى بذبحه هو إسحاق، وهذا قول الأكثرية، وهو قول علي وابن مسعود وكعب ومقاتل، وقتادة وعكرمة والسُّدِّي (شفاء الغرام، 2/17). ويذهب آخرون إلى أن الذبيح هو إسماعيل، وهو قول: سعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن، ومجاهد، وابن عباس، وفي رواية عطاء (المرجع نفسه، 2/17).

وذهب الفاكهي (مؤرخ شهير، تـ280هـ) في كتابه (أخبار مكة) إلى أن الذبيح هو إسماعيل؛ بينما ذهبت طائفة من المسلمين مع أهل الكتاب إلى أن الذبيح هو إسحاق، وبعد أن أورد الرأيين رجّح أقوال العرب، ولإثبات ذلك استدل عليه بما قاله الله سبحانه وتعالى:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات الآية:112]، فذهب إلى أن ذكر قصة إسحاق بعد القصة التي قبلها هي البرهان على أن الذبيح هو إسماعيل، وليس إسحاق؛ لأن البشارة بإسحاق وابنه يعقوب من بعده تتطلب حياة أبيه لتصحّ البشارة.

وكذلك ذهب ابن كثير إلى ترجيح إسماعيل؛ لأنه اعتبر ما قاله مرجّحو إسحاق تحريفا من النقلة من بني إسرائيل (البداية والنهاية، 1/199)، ويستدل الشيخ عبد الوهاب النجار، صاحب كتاب قصص الأنبياء على أن الذبيح هو إسماعيل؛ بالاعتماد على ما ترويه التوراة، إذ أنها تروي أن الذبيح هو الابن الوحيد لإبراهيم؛ لأنه ولد قبل إسحاق، فلمّا ولد إسحاق بطل الوصف، وفيما يبدو لي أن هذا هو المرجح في أن الذبيح هو إسماعيل؛ لأن سفر التكوين ذكر أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة، وفي روايات أخرى أربع عشرة سنة، وهذا ما يؤيده السياق العام للقصة التي بشّرت بإسحاق بعد أن تناولت قصة الذبيح، وبذلك تكون القصة قد وقعت في منى مع إسماعيل؛ لأنه جاء إلى مكة مع أمه قبل هذه السن، حسبما تدل عليه الأخبار والقرائن المستقاة من حادثة نبع ماء زمزم، ثمّ إنّ الحوار الذي وقع بين إبراهيم والذبيح حكته الآية:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات: من الآية:102].

فهذه الآية وما يليها يدلان على أنّ إسماعيل كان في سن صغيرة، ولكنها تسمح له بوعي ما قاله له أبوه، وبما أن التوراة تؤكد أن الذبيح كان الابن الوحيد لإبراهيم، فإنه يترجح لدينا أنّه إسماعيل؛ لأن الأخبار كلها تدل على أنّه أكبر من إسحاق؛ كما أن مضمون القصة التي حكتها الآيات القرآنية التي تناولت حادثة الذبح، يدل سياقها على أن الذبيح لم يكـن قـد بلغ سن الرشد التي تبدو فيها سمات الحرية الفردية في إظهار المواقف الشخصية؛ كما أن هذه السن يكون الإنسان فيها قد تحرر عن مسؤولية الوالدين، إذ لا يمكن أن  يفرض الأبوان أو أحدهما رأيه على ابنه في هذه السن، حتى الإسلام نفسه وكل الشرائع السماوية من قبله، كانت تراعي هذه الحرية، وتحترم الشخصية الفردية لكل إنسان، ولعل قصة نوح مع ابنه كنعان الذي لم يتبعه خير دليل على ذلك؛ فلقد ناداه إلى الركوب معه في السفينة قبل أن يحول بينهما الموج، فأبى، وقال:{قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}[هود: من الآية: 43].

 

فهذه القصة المروية عن نوح عليه السلام، قدمت لنا الدليل على أن الحرية الشخصية للفرد تكفلت بها الشرائع، وجعلتها مسؤولية ذاتية لا سلطان لأي أحد عليها؛ كما أن قوله تعالى:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} دل على أن إسماعيل لم يزل غلاما تخضع حريته إلى توجيه الأبوين وإرشادهما؛ ثمّ إنّ الذي يدل على أنّه إسماعيل وليس إسحاقَ في ترجيح آخر، هو أن إبراهيم عندما أنجب إسماعيل كان قد بلغ سن اليأس (بلغ مائة سنة، وسارة تسعين سنة، ابن خلدون المجلد 2/67)، فلم يكن يطمع في الإنجاب وقد بلغ هذه السن المتقدمة؛ فلمّا ولد إسماعيل قرّت به عينه، فكان يراه الابن الوحيد الذي يملأ عليه الحياة ويشعره بأنه أب مثل بقية الناس، ولمّا كان هذا شأنه أراد الحق سبحانه أن يبتليه ويختبر قوة إيمانه وصدق عزيمته، فأوحى إليه في المنام بأن يذبح ابنه الوحيد، وهذا أقصى ما يصل إليه الابتلاء؛ لأن ذبح الابن الوحيد معناه أن يصبح بدون ولد، وقولي هذا ليس استدلالا مما تقول به التوراة، وإنما هو استنتاج من مغزى هذا الابتلاء العسير؛ فلو كان لإبراهيم ولدان لم يكن لهذا الابتلاء أثر كبير في تقديري والله أعلم.

وكان إسماعيل أول من روّض الخيل واستعملها للركوب والأسفار؛ لأن الخيل قبل ذلك كانت متوحّشة لا تركب. ولقد اختُلف في تحديد السن التي عاشها إسماعيل، فذكر ابن إسحاق أنّه عاش مائة وثلاثين سنة، ولَمّا مات دفن مع أمه في الحجر، وقال المسعودي: إنه قبض وله مائة وسبع وثلاثون سنة، ودفن في المسجد الحرام، قبالة الموضع الذي كان فيه الحجر الأسود، وجاء في كتاب الكامل لابن الأثير، أنه عاش مائة وسبع وثلاثين سنة، وهذا ما قاله ابن كثير أيضا.

أمّا أمه هاجر، فقد توفيت ولها من العمر تسعون سنة، وهذا قول السهيلي والنووي. وكان إسماعيل يبلغ سن العشرين عند وفاتها، وهذا يقتضي أنها حملت به وهي تبلغ السبعين، وهذه معجزة من الله سبحانه وتعالى.

الأمر ببناء البيت

البيت الذي اختارت له العناية الإلهية أن يكون في مكان بواد مقفر غير ذي زرع، في صحراء قاسية وغير رحيمة ولا حياة فيها ولا حركة ولا نبض، إنما كان لأن المشيئة العليا تقدر الأمور بمعايير غير المعايير التي يحتكم إليها البشر، والحكمة من ذلك حمل الناس على أن يتعودوا على ألف مالا يحبون، فالبشر تميل نفوسهم وطبائعهم إلى حب النضرة والجمال والخصوبة، وما لان من العيش والمأوى والملبس والسعة في الرزق، وما تبهرج من الحياة ونعيمها، وتنفر من وعورة الأرض وقساوة التربة وكآبة المنظر، وخشونة العيش وضيق الحال وعسره، وثقل التكاليف والمواظبة عليها، واختيار تلك البقعة القاحلة من الأرض ليبنى عليها بيت ينسب شرفه إلى الحق سبحانه، هو الذي منح المنطقة قدسية وشرفا، وجعلها تعظم في أعين المؤمنين وتأسر عقولهم، ويحيطونها بهالة من التقديس والتعظيم، ويشدون إليها الرحال، وينفقون من أجل زيارتها المال والجهد والوقت.. وتجعلهم ينتشون بحبها ويهيمون بعشقها.

ولكي يمنحها الحق سبحانه قدسية عظيمة في نفوس المؤمنين، أمر نبيين عظيمين ومقربين ببنائها، وأن جعلها قبلة أبدية لأمة مرحومة تتوجه إليها في كل صلاة أو دعاء، وجعلها موقعا لتأدية شعائر ركن من أركان الدين الهامة في حج أو عمرة، وجعلها محفوفة بالملائكة ومغمورة بالسكينة والرحمات والبركات، وأن حرم سفك الدماء والاعتداء وارتكاب المظالم بحرمها، فتحولت من أرض جدباء قاسية غير رحيمة إلى أرض طيبة مقدسة ومباركة إلى يوم الدين. تعقد فيها مؤتمرات دينية تعبدية في أوقات معلومة وغير معلومة، للتعارف والتواصل والتقارب ونسيان الخصومات والعداوات والأحقاد، واكتساب المنافع  وتبادل الخبرات والتجارب.

وقد تلقى أبو الأنبياء وولده عليهما السلام الأمر من السماء لبناء البيت، ومما لاقاه من مصاعب لم يكن لهما دراية بفن البناء، ولم تكن لديهما وسائل البناء، كالسقالة والمطارق والعتلات والأزاميل والكاشطات وغيرها، والمنطقة صخرية وليس يسيرا أن يقتطعا منها الحجارة المناسبة للبناء، وليس فيها تربة لخلطة الميلاط الذي يشد الحجارة ويزيدها تماسكا، ويمنعها من التداعي حين تغمرها السيول في المواسم المطيرة، ولكنهما تجشما المصاعب بقوة وصبر وثبات، امتثالا للأمر الإلهي ورفعا قواعد البيت، وهما يبتهلان إلى الله ويسألانه العون والتوفيق وأن يجعل أفئدة من الناس تأوي إليه، ويجعله بيتا مباركا طيبا عامرا بالخير واليمن والبركات، وتقبل الحق سبحانه من إبراهيم دعاءه، وأصبح البيت قبلة أبدية لحفيده وأمته التي عمرته وأعلت من شأنه، وجعلته منارة ساطعة يستضاء بها حتى من أعالي الفضاء من المركبات والصواريخ.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com