ومضـى شهــر رمضـــان المبـــارك /بقلم الشيخ الدكتور/يوسف جمعة سلامة
وَلَكَم يتمني المؤمنون أن يكون رمضان العام كله، لما يعلمون فيه من الخير والبركة، وغفران الذنوب والرحمة، وصلاح القلب والأعمال.
لقد استقبل المسلمون قبل أيام عيد الفطر المبارك بعد أدائهم لفريضة الصوم، وفي يوم العيد يتجلى الله على عباده، فيغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم، ويرحمهم ويوفيهم أجرهم بغير حساب، وفي العيد دعوة إلى تأكيد أواصر المودة بين الجيران والأصدقاء، والتراحم بين الأقرباء، والتعالي على أسباب الحقد والشحناء.
وفي يوم العيد يعطف الأغنياء على الأيتام والفقراء والمحتاجين، فتدخل البسمة والفرحة كل البيوت، وتظهر وحدة المسلمين وتكافلهم، فهم كالجسد الواحد، فليس بينهم محزون ولا محروم.
ورحل شهــر الصيــام
لقد رحل شهر رمضان إمَّا شاهداً لنا أو علينا، فقد انفضَّ موسم الخير في شهر الصوم، موسم مضاعفة الأجر والثواب، ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر، ونسأل الله أن يكون شاهداً وشفيعاً لنا، كما جاء في الحديث: “ الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَة فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ: قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ” (1).
مضى وانقضى شهر الخيرات والبركات، شهر رمضان المبارك، والناس قسمان: منهم من أطاع ربه وخاف يوم الوعيد، فهنيئاً له، وله عند الله المزيد، ومنهم من عصى ربَّه، وقصّر في طاعته، ونسي يوم الوعيد{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ}(2)، هذا الصنف من الناس ندعو الله لهم بالهداية والرشاد، والتوبة الصادقة قبل الممات {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بقَلْبٍ سَلِيمٍ}(3).
لقد انقضى رمضان، ككلِّ شيء في هذه الدنيا ينقضي ويزول، كلُّ جمع إلى شتات، وكلُّ حي إِلى ممات، وكلُّ شيء في هذه الدنيا إلى زوال،{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(4)، وكما قال الشاعر:
سلامٌ من الرحمنِ كــــــلَّ أوانِ
على خيرِ شهرٍ قد مَضَى وزمــــانِ
سلامٌ على شهرِ الصيـــــــامِ فإنّـه
أمانٌ من الرحمنِ أيُّ أَمَــــــــــانِ
لَئِنْ فَنِيَتْ أيامُك الغُرُّ بَغْتَــــــةً
فَمَا الحُزنُ من قلبي عليك بفَانِ
فهنيئاً لمن أخلص في تجارته مع مولاه في هذا الشهر العظيم، وأحسن المعاملة مع خلقه، وضاعف الله له الثواب والأجر العظيم بجنةٍ عرضها السموات والأرض أُعِدّت للمتقين، الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين، فهنيئاً لمن قام رمضان إيماناً واحتساباً، فغفر الله له ما تقدم من ذنبه، ورحم الله القائل:
غداً تُوَفَّى النفـــوس ما كسبــــتْ
ويحصد الزّارعون مَا زَرَعُـــــــوا
إن أحسنوا فقد أحسنوا لأنفسهم
وإن أساؤوا فبئس مَا صَنَعُــــــــوا
إن لربنا في دهرنا نفحات، تأتينا نَفْحةٌ بعد نفحة، تُذَكِّرنا كلما نسينا، وَتُنَبِّهنا كلما غفلنا، فهي مواسم للخيرات والطاعات، يتزود منها المسلمون بما يُعينهم على طاعة الله سبحانه وتعالى:{وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}(5).
كن ربانياً ولا تكن رمضانياً
نقول لكل من فرّط أو قَصَّر في شهر رمضان: لا تيأسْ من روح الله سبحانه وتعالى ولا تقنط من رحمته، فربك الغفور ذو الرحمة لكل من تاب إليه وأناب، فارفع يديك إليه وتضرع بين يديه وأكثر من الاستغفار والدعاء، فإن الله غفور لمن تاب وعمل صالحاً ثم اهتدى.
ومن الأمور المؤسفة أن بعض الناس يُقبلون على الله في رمضان، فإذا ما انتهى رمضان انتهى ما بينهم وبين الله، قطعوا الحبال التي بينهم وبين الله، فللأسف لا يعمرون المساجد، ولا يفتحون المصاحف، ولا تلهج ألسنتهم بالذكر والتسبيح، كأنما يُعبد الله في رمضان ولا يُعبد في شوال وسائر الشهور. من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد رحل، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فقد ورد أن بعض السلف كانوا يقولون: بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، كُن ربانياً ولا تكن رمضانياً.
إن الواجب علينا أن نواظب على طاعة الله ورسوله في كل وقت، فالله عز وجل يحب من العمل أدومه وإن قلَّ، فإياك يا أخي القارئ أن تنقطع عن العبادة بعد رمضان، فهذا ما لا ينبغي، فليس من اللائق أن يكون لك في رمضان حظٌّ من التلاوة، ثم بعد ذلك تهجر المصحف إلى رمضان القادم، وأن يكون لك حظٌّ من المسجد، ثم بعد ذلك تنقطع عنه إلى رمضان القادم، فهذا لا يليق.
وعلينا أن نتذكر دائماً قول الله تعالى:{لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(6)، وقوله أيضا:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}(7)، فأين هذا من أولئك الذين ينسون الله سائر العام، ولا يذكرونه إلا في شهر رمضان، ويعصونه ويكفرون نعمه ويجحدون فضله أحد عشر شهراً، ثم يَمُنُّونَ على ربهم أن عبدوه شهراً واحداً، هذا جهل وتفريط، جهل بحق الله على عباده، وتفريط بواجبهم نحوه سبحانه وتعالى.
فضل صيام الست من شوال
اعلم أخي المسلم بأن العبادة والطاعة لا تنقطع وتنتهي بانتهاء شهر رمضان المبارك، فلئن انقضى صيام شهر رمضان فإن المؤمن لن ينقطع عن عبادة الصيام، فالصيام لا يزال مشروعاً، فقد روى أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ” مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ“(8)، وجاء تفسير ذلك في حديث آخر رُوِيَ عن ثوبان، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ( صِيَامُ شَهْرٍ بِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ، وَسِتَّة أَيَّامٍ بَعْدَهُنَّ بِشَهْرَيْنِ، فَذَلِكَ تَمَامُ سَنَةٍ )(9)، يعني – شهر رمضان وستة أيام بعده -، فصيام رمضان بعشرة أشهر، وستة أيام بشهرين، أي: صام السنة كلها، وإذا استمر على ذلك في كلّ سنة فقد صام الدهر كله، وقد تعددت آراء العلماء في ذلك، فبعضهم يقول: يتبعها في اليوم الثاني للعيد، والبعض قال: المهم أن تكون في شوال، وليس من الضروري أن يصومها ستاً متتابعة، ويمكنه صيامها متفرقة.
ومن فضل الله علينا أن رسولنا – صلى الله عليه وسلم – قد شرع صيام ثلاثة أيام من كل شهر لحديث أبي ذر – رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم – قال: “يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَصُمْ ثَلاثَةَ عَشَرَ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ” (10)، وكذلك صيام يوم عرفة، وصيام يومي الاثنين والخميس، وصيام شهر الله المحرم.
لذلك يجب علينا أن نعلم أيها القارئ الكريم بأن الطاعات والمسارعة فيها ليست مقصورة على رمضان ومواسم الخير فحسب، بل عامة لجميع حياة العبد، وإنما كانت تلك منحًا إلهية وهبات ربانية امتنَّ الله بها على عباده، ليستكثروا من الخيرات وليتداركوا بعض ما فاتهم.
تقبل الله منا ومنكم الطاعات، ونسأله سبحانه وتعالى أن يعيد علينا شهر رمضان القادم باليمن والخير والبركات، وقد جمع الله شملنا وَوَحَّدَ كلمتنا وألف بين قلوبنا إنه سميع قريب.
نسأل الله أن يتقبل منا الصلاة والصيام والقيام، وكل عام وأنتم بخير
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الهوامش:
1- أخرجه أحمد.
2- سورة ق الآية(30).
3- سورة الشعراء الآية (88-89).
4- سورة القصص الآية (88).
5- سورة البقرة، الآية (197).
6- سورة إبراهيم الآية (7).
7- سورة البقرة الآية (152).
8 – أخرجه مسلم.
9- أخرجه الدارمي.
10- أخرجه الترمذي.