قضايا و آراء

قراءات في كتابات عربية -الذات، النضال الفلسطيني وذاكرة الوطن-/ د: وليد بوعديلة

 

نقترح على القارئ الكريم وقفات عند تجارب أدبية عربية مختلفة، من الخليج إلى الجزائر، مرورا بالأردن، قد تكون الجغرافية كبيرة وممتدة، لكن المميزات الثقافية مشتركة، والهوية الثابتة والمتغيرة تجمع بين أبناء لغة الضاد، والهمّ الوطني والعربي يجمع بين النصوص، وفلسطين الشهادة لا تغيب..تابعوا.

 

1-الشاعر الجزائري عبد العالي مزغيش… الحب والصمود الفلسطيني

من يقرأ ديوان الشاعر الجزائري عبد العالي مزغيش “مزيدا من الحب”- منشورات الجزائر تقرأ،2017- سيرحل حتما لكثير من المشاهد والتجليات القادمة من الزمن الأندلسي، بكل ما فيه من نصوص الحب والهوى، ومن ملامح الحضور العربي الإسلامي المشع والبهي في رومنسايته الحالمة وأعلامه في الفنون والآداب.

أ– نصوص في الحب/ المكان

فقصائد المجموعة الشعرية تقول الحب وتكاشف أسراره ويومياته، ويتحرك النص الشعري عند عبد العالي مزغيش بين الكثير من جماليات قرأناها في الشعر العربي المعاصر، وكأنه يمتلك متعة السفر بين دواوين شعرية وتجليات فنية وفكرية لنزار قباني وعبد الوهاب البياتي ومحمود درويش..مع تفاعل ساحر متميز مع بعض من الصوت الشعري الساخر لأحمد مطر، وسيلحظ القارئ ذلك التأكيد الشعري في النص المزغيشي على عنصر التفرد وحضور الخصوصية النصية.

لقد استمتعت القراءة وهي تعانق قصائد تشكّل الأجواء الرمزية للأنثى والمكان، فالشعر هنا يمزج حب المرأة بحب المكان، مثل نص “أوراسية”، ونص”النائلية”..وغيرهما، ويعيدنا لزمن شعري عربي قديم في مستوى الدلالات لكن في أداء شكلي معاصر، فيه الشعر الحر وقصيدة النثر.

فنصوص الشاعر مزغيش ترتقي بالأمكنة الجزائرية والعربية، وتبحث في تاريخها وهويتها الحضارية والدينية، ثم تعود لتبني عوالمها وإشاراتها الفنية والفكرية، كما هو شأن ابن أولاد جلال مع نصوصه  بوسعادة، امدوكال، عرس الشهيد، غزة…

 ب- عن الأم وفلسطين

ومن الميزات الفنية والدلالية لشاعرنا عند توظيف العناصر التراثية الشعبية والتفاعل مع الرموز التاريخية والأسطورية والدينية، وسيقرأ القارئ تجليا نصيا يتأرجح بين الإيحاء والتصريح لشخصيات كثيرة مثل: قيس، أفروديت، شهرزاد، زرياب، حيزية، سيدي خالد، حواء، زوليخا، هابيل…

ووجدنا بعض النصوص تحيلنا للتقرير والمباشرة في التعبيرـ وبعض النصوص تراوغ المعنى وتعتمد الترميز وتتحدى القارئ شكلا ودلالة، ولعل قصيدة “مرثية إلى أمي” من القصائد الراقية حول الأم في الشعرية العربية المعاصرة ومنها:

“إني لأسمع صوتك القدسي

يهمس لي:

توسد سبحتي ووشاحي…

فأضم صورتك البهية،

أنحني للكحل

يشهد حرقتي ونواحي

وأنام أحلم أن أقبل راسك الغالي”

مع ملاحظة أن القصيدة ذات نفس درامي وغنائي، تحتاج لملحن يحسن تجسيد المعاني السامية لها، وتبحث عن صوت جزائري أو عربي طربي ليحولها لأغنية جميلة، تذكّر الإنسان العربي بقيمة الأم وجلال قدرها.

كما تفاعل الشاعر مزغيش مع القضية الفلسطينية وكتب شوقه للأرض والانسان والنضال، سيرا على نهج كثير من شعراء الجزائر في حب فلسطين والتغني ببطولاتها ومجد شهدائها، وحضرت الأمكنة والبطولات في الديوان، وأنشد مزغيش اللهب الثائر في غزة، نقرأ مثلا من قصيدة عرس الشهيد:

” وغزة زغرودة

كابتهال الصباح المدجج بالحب

يرفعها

عاشق دمه من بهاء

غزة امرأة قنبلة

أمّة وحدها…زفّت الشهداء

إلى روضة الخالدين”.

2-الكاتبة الأردنية سناء شعلان ومفاتيح النص السردي

تعتبر الكاتبة المبدعة والأكاديمية الأردنية الجنسية سناء كامل احمد شعلان من الأسماء النسوية التي احتلت موقعا متميزا في المشهد الأدبي والثقافي العربي، بفضل خصوصيات النص الأدبي الذي تكتبه، وبفضل حضورها الجميل والمتميز في الجامعات العربية وفي مختلف الفضاءات الثقافية.

  • الكتابة وقلم التحدي والجرأة:
    سأحاول أن أقدم للقارئ الجزائري والعربي بعضا من هوية الكتابة السردية عند المبدعة العربية سناء شعلان، رغم صعوبة المهمة .

وقد تحصلنا على مجموعة من أعمالها الأدبية في الرواية وفي القصة، وآخرها نصوص مجموعتها الجميلة” تقاسيم الفلسطيني”-2015، وروايتها “أعشقني” -لها طبعت عديدة أولها عام 2012، وقد تكون لنا وقفة عندها في المستقبل.

و في قصص “مقامات الاحتراق”-2006، نقرأ في الهوية الفنية للنصوص حضورا لشخصيات تتعرض للضغوط ومحاولات السيطرة عليها، ونجد جماليات التشكيل الشعري للسرد، وإذا كان القارئ يبحث عن اللغة الصوفية فسيجدها في بعض قصص المجموعة… ويسيطر على هذه المجموعة فضاء الموت ودلالات الخراب والفناء…
ولا تنسى الساردة الأردنية العربية البحث – بوعي التحدي والجرأة- في السلطة وتفاعلاتها مع الرعية، كما تقترب من قضايا الرجولة والوعي الزائف وممارساته في المجتمع العربي، وكذلك فعلت في قصص”مذكرات رضيعة”-2006،حيث كاشفت سناء شعلان قضايا العادات والتقاليد والإرهاب، مع طغيان تقنيات التجريب السردي وجمالياته، بخاصة التكيف والاختزال..

ب- نصوص.. الغرابة والدهشة
وتعتبر مجموعتها “قافلة العطش” – 2006، من أجمل ما قرأنا حول الحب والحرية، وتشتغل الساردة فيها على موضوعات كثيرة، يمكن للقارئ العربي أن يناقشها ويحللها، ومنها سفر المبدعة في أسئلة الرؤيا والآتي، وتوظيف الرحلة والأساطير، والموروث الشعبي بمختلف أسراره وطقوسه..
كما تستعمل الكاتبة تقنية تميزها عن غيرها وهي توظيف شخصيات غير عادية في تشكيل بنية القصص (قزم مسخ، ساحرة إفريقية، الأعور، الجنية…)، وهو ما يمنح نصها السحر والأجواء الشعبية الخارقة، ويدخل القارئ في الدهشة والغرائبية.
وتتميز نصوص هذه المجموعة باللغة الشعرية والرمزية، وتجلي الجنون وخرق المألوف، ويمكن لكل قارئ أن يدرس في نصوص شعلان- في هذه القصص وغيرها- إشكاليات الراهن العربي وسؤال الهوية وآليات اشتغالها السردي في سرديات سناء شعلان.
في مجموعتها “ناسك الصومعة” (2007)، نقرأ من المنظور الجمالي تهديما للأشكال السردية النمطية، حيث تحاول نصوص شعلان تجاوز أحادية الخطاب ومألوف التعبير السردي، عبر الانقلاب والتجريب والإدهاش المتواصل للقارئ،أما في الجانب الموضوعاتي للنصوص فنجد الاشتغال الدلالي على الحلم والأسطورة والتاريخ، وتجليات المرأة العربية في مجتمع ذكوري متخلف…
كما أن بعض القصص تبحث في الخلود وأسرارهم مثل قصة المجاعة، وتفتح الساردة مشاهد الصراع في الراهن العربي في قصة ناسك الصومعة…

لا يمكن اختصار التجربة الأدبية للدكتورة والمبدعة سناء شعلان، ونقول في الختام: إن مشروعها السردي يتشكل من علامات خاصة،فهي توظف الموروث الشعبي والديني والأسطوري، وتقترب من القضايا العربية الهامة التي تهم الانسان العربي وتحولاته النفسية والاجتماعية والفكرية، بطريقة فنية فيها الكثير من الجرأة والتحدي، فإنها روائية عربية متميزة ننصح بقراءة أعمالها لأنها مبدعة صنعت اسما عبر جودة النص في السياق السردي النسوي العربي.

3- المبدع العماني سيف الرحبي… عن سيرة الذات والوطن…

 

يقترح المبدع والشاعر العماني العربي سيف الرحبي على القارئ نصا نثريا  مفعما بالذكريات والعواطف والأفكار، من خلال يوميات كتابه “الصعود إلى الجبل الأخضر”- منشورات مجلة دبي الثقافية، 2012-، وهي عبارة عن نص نثري منفتح على بعض من جزئيات السيرة الذاتية وبعض من عناصر أدب المذكرات، مع حضور لكثير من سيرة الوطن العماني وأخباره وتراثه وجماليات أمكنته.

إنه يرحل  بالقارئ إلى منعرجات الجبل الأخضر العماني، ومن ثمة يدخلنا إلى ذاكرة الأرض والإنسان في تلك المساحة الطيبة والفضاء الثقافي المفتوح من الخليج العربي، وهي ذاكرة الرحبي وأرضه وأهله، فيجب أن ننتظر أن يكون النص الأدبي صدى لصوت الحكي الداخلي العميق للشاعر العماني، مع تداخل للخطابات المتعددة والمتباينة، بحسب مرجعيات المبدع وإسهاماته في المشهد الثقافي العربي، رغم أننا لم نتحصل على منجزات شعرية ونثرية كثيرة لسيف الرحبي، وكنا نتمنى أن نقدمها لطلبتنا بكلية الآداب بجامعة سكيكدة بالجزائر ليحللوها وليكتشفوا جمالياتها وتجلياتها…

في نص”الصعود إلى الجبل الأخضر” يتداخل العاطفي بالعقلاني،  ويؤكد المبدع سيف الرحبي حنينه وشوقه لتربة الجبل الأخضر، وكأنه يريد أن يعيد لمجد المكان العماني والخليجي أهله وأجداده الذين غادروا الفانية للباقية.

بل ربما يريد الكاتب أن يذهب لهم بعد سنوات من الصراع المادي والمعنوي مع إنسان هذا العالم الذي توحّش وقتّل المشاعر والروح والجمال…، فكانت الكتابة الأدبية وسيلة للبحث عن ملامح الإنسانية، رغم ندرتها وقلتها في هذا الزمان..

وتأخذنا الصفحات في رحلة شاعرية أسطورية، يتعانق فيها الشجر والصخر، فنشاهد البيوت الطينية التي يسكنها أهل الجبل الأخضر، وهذا المكان ليس صخرا وحجرا بل هو روح وذاكرة، وهو موروث غني بكل مشاهد السحر والحكمة والوفاء وقوة المشاعر وجلالها..

ونلاحظ المبدع سيف الرحبي يلجأ من حين لآخر إلى اللغة الشعرية في الكتابة النثرية، فتصعب عملية القراءة التي تعودت على قيم تعبيرية وجمالية مألوفة وذات اتجاه نثري أحادي خطي، من غير خرق وتجاوز، فلا نكاد نقبض على النوع الأدبي الذي تنتمي إليه نصوص هذا الكتاب، أو لعله نوع أدبي جديد يحتاج لوعي قرائي جديد متجدد؟

هو نوع فيه شعرية السرد وسردية الشعر، وفيه سيرة الذات وذكريات الوطن والأمة، وفيه أسفار الأمم وملامحها الثقافية والسياسية والاجتماعية …كما نجد- في النص- تجليات الأنا والآخر وذاكرة الأمكنة العربية والأجنبية، ومحطات من الراهن العربي وثوراته، فيتداخل الواقع مع الخيال والماضي بالحاضر..

لقد تجلى الجبل الأخضر بملامح أسطورية ساحرة، ورحل بنا المبدع سيف الرحبي نحو كتابة جديدة، يصعب القبض على انتمائها الأجناسي الأدبي، لكن المتعة مضمونة فيها، والإفادة من الخصائص الحضارية للأمم متوفرة، فشكرا للمبدع العماني العربي على هذا النص الجميل.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com