دراسات في السيرة النبوية/ خير الدين هني
جاء في سيرة ابن هشام، جزء، 1 ص 201 قال: قالوا:” لا ينبغي للحُمْس أن يتقطوا الأقط (هو لَبَنٌ مُحَمضٌ يُجَمدُ حتى يَستحجِر ويُطْبَخ، أَو يطبخ به، والأقط من طعام البادية)، ولا يسلؤوا (يذيبون) السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتا من شعر ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم (الجلد) ما كانوا حرما، ثم رفعوا في ذلك، فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل (سائر بلاد العرب من غير قريش) أن يأكلوا طعاما جاءوا به من الحل إلى الحرم، إذا جاؤوا حجاجا أو عمارا، ويذكر صاحب كتاب البداية والنهاية ابن كثير (الجزء 3ص،493 )” أنهم كانوا يمنعون الحجيج والعمار ماداموا محرمين أن يأكلوا إلا من طعام قريش”. الغرض هو تصريف المزيد من السلع والبضائع المكدسة لجني الأرباح الطائلة.
كانت قريش حين وضعت هذا الامتياز لنفسها، إنما كانت تبالغ في التميز والتعالي عما سواها من العرب، وكانوا يقولون نحن لسنا من أهل الحل، (على نحو ما يقوله حكام اليوم نحن لسنا مثل بقية الشعب) فكانوا يقولون نحن أهل الله فلا نخرج من حرمه”. فكان أن وضعوا حقوقا ليس لسائر العرب، فلما جاء الإسلام أبطلها ورد الأمور إلى نصابها. وهذه الامتيازات التي وضعتها قريش إنما وضعتها لتتعاظم على سائر العرب، وهذا ما نراه لدى حكام اليوم وحواشيهم ممن وضعوا امتيازات ضخمة لأنفسهم وأبنائهم، في الرواتب والمعاشات والقروض البنكية والإقامات الفخمة والسير المحروس على الطرقات من أجل الظهور والتباهي والتميز.
مكثوا على ذلك دهرا من الزمن وقد مَرَدوا على الكفر والجحود، وظلوا يعيشون في مراتع البغي ومعاقل الضلال؛ حتى بعث الله فيهم نبيا رسولا ينذرهم يوم الحساب، ويبين لهم أن ما هم عليه عاكفون ليس من الحق في شيء، وهو باطل وضلال. وما إن انبلج نور الحق ساطعا أمامهم، حتى استفاقوا من غفلتهم ونهضوا من سباتهم الطويل، وتحررت عقولهم ونفوسهم من أغلال الجهالة والبغي والضلال، وانطلقت في الآفاق تبحث عن نور اليقين؛ فهداهم إلى الرشد والهدى؛ فكان دين الإسلام بتعاليمه الراشدة هو من أعاد إليهم توازنهم العقلـي والنفـسي، وجمع شتاتـهـم على كـلمة سواء، فأصبحوا أمة عظيمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
وما هو إلا زمن يسير حتى استطاعوا أن يكوّنوا دولة عظيمة؛ قوّضت أركان ممالك الضلال وإمبراطوريات الطغيان والاستبداد، وحققت للناس حياة آمنة مطمئنة؛ سادها العدل والمساواة، والقيم الإسلامية السامية التي لا تفاضل فيها بين الناس إلا بالتقوى والصلاح، وإقامة الحياة على مبادئ الفضيلة التي توازن بين الروح والجسد؛ في علاقة تكاملية، لا يطغى فيها أحدهما على الآخر، والعودة بالإنسان إلى الفطرة الأولى التي فطر الله الناس عليها.
اليهودية في بلاد العرب
كان للوجود اليهودي في بلاد العرب أسباب مختلفة، تناولها المؤرخون والإخباريون، سنترك الحديث عنها في بابها، إن شاء الله؛ أما سبب دخول اليهودية إلى اليمن فيمكن تلخيصه في أن تبع اليمن الثالث الحِمْيَرِي اعتنق اليهودية عندما مَرّ بيثرب عائدا من حروبه التي خاضها بالشمال، لقد ذكر ابن إسحاق أن هذا الملك الذي كان وثنيا قد اتصل بحبرين في المدينة، وهما من قبيلة بني قريظة، فاعتنق اليهودية على يديهما، ثمّ عاد إلى اليمن بصحبتهما؛ فلما علمت جماهير اليمن بتهوّد ملكهم خرجت عن بكرة أبيها إلى ضواحي مدينتهم يمنعونه من الدخول عليهم؛ لأنه غيّر دينهم، ولكن الملك حاورهم وذكر لهم مزايا الدين الجديد فاقتنعوا به، وسمحوا له بالدخول إلى مقر المملكة، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت اليهودية الدين الرسمي للدولة الحِمْيَرِية.
وظلت اليهودية على ذلك حتى زمن تبع الخامس، (ذي نواس) الذي هزمه الأحباش واستولوا على أرضه، فاعتنقوا النصرانية وظلت الدين الرسمي حتى ظهور الإسلام. غير أن ذلك لا يعني انقراض اليهودية من اليمن بالكامل؛ بل ظلت هناك أقليات تعيش عبر مراحل التاريخ الطويل، إلى أن نزحوا إلى فلسطين بعد أن اغتصبتها الأمم المتحدة من الفلسطينيين، والمعروف أنّ اليهودية كانت منتشرة في بعض مناطق الجزيرة، كاليمن والمدينة وخيبر وتيماء، وظلت بها حتى ظهر الإسلام؛ فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم، عن المدينة وخيبر، ثمّ أجلاهم عمر بن الخطاب عن تيماء.
النصـرانـيــة
كانت النصرانية في هذه الفترة من الزمن (قبل ظهور الإسلام) قد تفرقت إلى مذاهب مختلفة، ومن المذاهب التي دخلت إلى الجزيرة العربية النسطورية واليعقوبية، فانتشرت النسطورية في الحيرة؛ واليعقوبية في غسّان ومَن تبعها من قبائل، ووجدت صوامع للعبادة في وادي القرى؛ أمّا المكان الذي كان مأوى للنصرانية بالمعنى الحقيقي فهو (نجران)، وهي المدينة اليمنية الشهيرة بخصوبتها وعمارتها، وكانت أمورهم توكل إلى ثلاثة رؤساء، وهم: السيّد، والعاقب، والأسقف. فأمّا السيّد فيضطلع بالأمور الحربية والعلاقات الخارجية، على حين يكون للعاقب الإشراف على الشؤون الداخلية المرتبطة بالتنظيم الداخلي، وتبقى الشؤون الدينية من اختصاص الأسقف، ولقد عظم نفوذ النصرانية بأرض اليمن، لاحتلالها من قبل الأحباش؛ فكانوا يحرصون على نشرها وتحبيبها إلى قلوب الناس.
ولكي يكون لها أثر كبير على عقول الناس ونفوسهم؛ عمد أبرهة إلى بناء كنيسة ضخمة أنفق عليها أموالا باهظة، لكي تبدو في أعين الناس جميلة في صورتها وهيئتها، وكذلك ليستميل قبائل العرب إلى زيارتها، وتعظيمها كتعظيمهم للبيت في مكة ( السيرة النبوية، ابن كثير، 1/31).
لذلك قرّر أبرهة هدم الكعبة المشرفة ونسفها من الوجود، كيما يتسنى له استئصال حبها من نفوس العرب، وقصة هذه الحادثة مشهورة في تاريخ البيت العتيق، لقد جاء في قوله تعالى في سورة الفيل:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ}.
وكان سبب الوجود الحبشي بأرض اليمن، أن ذا نواس تَهوَّد وتعصَّب ليهوديته، حتى إنه أقدم على حفر أخدود كبير؛ ثمّ قذف فيه جمعا كثيرا من نصارى نجران (قرابة عشرين ألف) وكان الأخدود يضطرم بنار محرقة؛ فمات النصارى حرقا (ابن هشام،1/37)، وهذه طريقة بشعة في القتل لم يتحدث التاريخ على مثلها، وقد أشار إليها الحق سبحانه في قوله:{وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[البروج:الآيات:4-8].
فلما فعل ذو نواس فعلته تلك، استنجد النصارى بإخوانهم الحبشيين الذين كانوا على دينهم، فاستجابوا لهم سنة 525م، وامتد حكمهم إلى غاية 575م، ومنذ هذا التاريخ دخلت النصرانية إلى البلاد العربية، فاعتنقها بعض الناس، وترهب بعضهم الآخر، وانقطعوا عن الحياة الدنيا بالخلوة إلى نفوسهم في الأديرة، وكان بعض المتنسكين يجوبون الأسواق يعظون الناس ويدعونهم إلى نبذ عبادة الأوثان، من أشهرهم قس ابن ساعدة الأيادي وأمية بن أبي الصلت الثقفي الذي كان يتشوف إلى النبوة، معتقدا أن السماء ستمنحه هذا التفويض، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبلاد العرب على هذا النحو من الحياة.