تحصين الوطن وتعزيزه بالعلم والأخلاق والعمل/ محمد مكركب
خمس حقائق يجب أن نعيد التذكير بها كل يوم إن استطعنا لأنها أسس كيان حياتنا، بإذن الله، وتعتبر الكليات التي بحفظها يسعد المواطنون في وطنهم، وهي: الدين، بما يقتضيه من القرآن والسنة. والأخوة الإيمانية، بما تقتضيه من الوحدة والاتحاد والتعاون والولاء العام. والوطن، بما يقتضيه من الدفاع عنه والعمل على حفظ جلاله وجماله. والوحدة العلمائية، بما تقتضيه من تعاون وتكامل خالص بين كل علماء الوطن. الوحدة العسكرية، بما تقتضيه من تماسك وتناصر بين كل أفراد الجيش على قلب واحد للدفاع عن الوطن والدين والنفس والمال، كل واحد يحمل حب الوطن والإخلاص له ابتغاء وجه الله.
فقد أجمع العقلاء على أن الوطن بالنسبة للمواطنين هو المأوى الذي يسترهم ويحفظ مصالحهم، بإذن الله تعالى، فهو البيت الكبير والقصر الأمين الذي يأوي إليه القوم ويحتمون به، ومن ثم وجب حمايته والدفاع عنه، وهو بمثابة السفينة في أعالي البحار، إذا أصابها العطب أصاب الخطر كل ركابها، لذلك لا يسمح اللعبُ بالوطن، ولا الغفلة عن الدفاع عنه، بكل ما يحفظ عزته وسيادته ومقدساته. ويعرف اللغويون كلمة الوطن بأنه مكان إقامة الإنسان، ومقره، وفيه مصالحه ومعايشه، ينتمي إليه ويحمل صورة هويته، فإذا قيل: الوطن الجزائري هو وطن إسلامي قرآني من الأمة العربية المسلمة. والوطن التونسي والليبي والمصري وغيرها. ويكون تحصين الوطن وتعزيزه بالعلم والأخلاق والعمل. يقال: حَصُنَ المكانُ يَحْصُنُ حَصانةً، فَهُوَ حَصِين: أي مَنُع، وأَحْصَنَه وحَصَّنه. والحِصْنُ: كلُّ مَوْضِعٍ حَصِين لَا يُوصَل إليه من خارجه، وَجمع الحصن حُصونٌ. وحِصْنٌ حَصِينٌ: مِنَ الحَصانة. ونقول: حَصَّنْتُ الْقَرْيَةَ أو المدينة إِذا بنيتَ حولَها ما يحفظها من هجوم العدو، قال الله تعالى: ﴿لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ﴾ (الحشر:14) وقال الله تعالى في قصة داود، عليه الصلاة والسلام:﴿وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ﴾ وكانت لبني قريظة حصون، يتحصنون بها، تسمى (الصياصي) مفردها (صيصة)، ويقال لقرني البقر (صياصي) لأن البقر بقرنيه يدافع عن نفسه. فالله جل وعلا أنزل أولئك من حصونهم، فقال الله:﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ﴾(الأحزاب:26).
وأُذَكِّرُ بسبع تحصينات أساسية:
وأول التحصينات: تحصين الوطن بالعلم والإيمان وهما متلازمان. كما ذكرتك في بحث المفاتيح العشر للنصر، فالعلم الصالح بالإيمان، والإيمان الحق بالعلم ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾، وقال تبارك وتعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾(الأنفال:29)، لكن من أجل وضع النقط على الحروف ما المقصود من العلم هنا في تحصين الوطن؟ أن يتعلم المواطن، وأن يعلم أولاده وأن يعمل ويعامل بالعلم، أن يتحرك الفلاح بعلم الفلاحة، والتاجر بعلم التجارة، وهكذا. تحصين الوطن بالعلم ألا يبقى فرد من أبناء الوطن جاهلا أميا، والخلاصة هنا أن يتحرك المسلم حيثما كان بالعلم، ومن مقتضيات العمل بالعلم القيام بمحو الأمية الفكرية، ومنها: نشر الوعي السياسي بتبصير الناس وتفقيههم في قيمة الوطن والوطنية والمواطنة، وخاصة فقه التكامل العمراني.
كيف نحقق قيمة المناعة الذاتية في جسم الوطن؟ تتحقق المناعة الذاتية ليكون الوطن قويا من الداخل منيعا يصمد أمام الرجفات والمحن والهزات، إذا وجدت أربع مقومات: 1 ـ قوة اقتصادية تصل إلى درجة الاكتفاء الذاتي على الأقل. 2 ـ اجتماع القوة العلمائية، يجتمع العلماء ويتعاونون على البر والتقوى في جمع شمل الأمة.3 ـ قوة سياسية تحقق وحدة القيادة والسلطة. 4 ـ ووحدة صفوف الجيش، المخلص في الدفاع عن الدين، وحدود الوطن وثرواته، ويحمي الشعب ومؤسساته .
وثاني التحصينات: التحصين بالعدل والإحسان: لا يستقيم المجتمع حتى يقوم العدل بالتمام والكمال، ولن يتم ذلك إلا بشريعة العدل، فإذا حكم الناس بما أنزل الله رضي عنهم وفتح لحم أبواب الخير والبركات وعاشوا في أمن وسلام، وجاء في الأثر:(عَدَلْت فَأَمِنْتَ فنِمْت) والعدل هو الإنصاف، وهو إعطاء كل فرد ماله، وأخذ ما عليه.﴿قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً.وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً﴾(الكهف:87/88) وعندما يغيب الحكم بالعدل تنتشر الفوضى وتضيع الحقوق والواجبات وينهار المجتمع. ومن أسباب التخلف غياب العدل والإنصاف والقسط بين الناس. قال الله تعالى:﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ﴾(المائدة:49).
أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالحكم بما أنزل إليه، بالكتاب،﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عن الحكم المنزل من عند الله وهو الحق، وأرادوا غيره من الأهواء ﴿فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ والمعنى يصيبهم بذنب التولي عن حكم الله سبحانه وتعالى، جزاء عصيانه وهجرانهم لشريعة الله ﴿يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ﴾ (ص:26) استخلف الله الحكام في الأرض ليحكموا بين الناس بشريعة رب الناس.
مفهوم العدل والعمل به في كل مصالح الناس: العدل ليس في المحكمة فقط للفصل بين المتخاصمين، إنما العدل الذي هو أساس الملك ـ كما علمت في مفاتيح النصر ـ هو أن يسود إحقاق الحق في كل الأعمال والمعاملات، فالعدل في الأجور، والعدل في توزيع الدخل القومي على المواطنين، والعدل في التربية والتعليم بأن يعامل كل طفل وكل طالب بنفس الحظوظ والامتيازات، والعدل في التوظيف بالكفاءات، والعدل في التصرف في المال العام بحسن التدبير وبغير إسراف ولا تبذير، والعدل في حفظ الحقوق، كحقوق الأرامل، واليتامى، والمشردين، والعاجزين عن الكسب.
وثالث التحصينات: تحصين الوطن بالعمل والإنتاج: والعمل هو الجهد المنظم الذي ينتج خيرا. ولا تُعد التجارة عملا منتجا إلا ما كان من المقايضات ـ سلعة بسلعة ـ أو ينتج الفرد سلعة يبيعها ويشتري بثمنها سلعة أخرى، أو يصنع أو يصلح أو يبدع ويخترع، فإذا كان التاجر يشتري ما ينتجه الآخرون ويبيعه للناس، فماذا قدم من الجديد؟ والعمل الفكري والإداري والطبي والإعلامي أعمال أيضا والعمل الفكري يفوق العمل العضلي إذا كان في الوجهة الصحيحة في خدمة المدنية بأحكام وروح الرسالة السماوية، وعمل الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام التبليغ والتعليم والتوجيه. ولا يكتمل دور التحصين بالعمل المنتج إلا إذا كان كل فرد في المجتمع يعمل وفق قدرته ولا يبقى أحد عالة على المجتمع. وعندما نتكلم عن تحصين المجتمع بالعمل المنتج نقف عند نقطة جوهرية في حياة الناس وقفة احترام وتقدير، وهي الاعتراف بحق تكريم ( اليد العاملة الوفية في أي مجال من الخدمات) وإعطائها قدرها وتكريمها اللائق بها، كَيَدِ الفلاحين جازاهم الله خيرا على ما يقدمونه للأمة، وكالعاملين في المناجم، والمعادن، والطرق، وغيرها من الأعمال المرهقة في سبيل تعزيز القوة الاقتصادية للوطن.
ورابع التحصينات: وحدة القوة العسكرية الدفاعية: وكل من يعمل لحفظ السكينة والأمن والاستقرار. قال الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾(الأنفال:60). والإعداد المطلوب يشمل الفلاحة والصناعة، والطرق الاقتصادية، والحربية، والقلاع، والحصون، والسلاح الذي يصنعه المسلم بنفسه، وليس السلاح الذي يستورده من عدوه. فكل قوة اقتصادية حربية مطلوبة ومقصودة من الآية. ولا ننس أن الدولة القوية من الداخل بالعلم والإيمان والأخوة والتماسك والتعاون بإخلاص وحب، وما أدراكم ما قوة الحب بين المواطنين، والمؤمنين في العالم. وفي إعداد القوة أمام الأعداء، لو استطعت أن أذكركم كل يوم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا لفعلت:[ وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، (أي جماعتهم وأصلهم، والبيضة أيضا العز والملك) وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا](مسلم من حديث ثوبان.2889).
اكتب ما شئت، وعلل بما شئت عن حال الحروب الأهلية بين المسلمين مع بعضهم، فلن تجد موعظة أبلغ وأوضح من هذه الخطبة البليغة للرسول عليه الصلاة والسلام. أتريد أن تحصن وطنك ولا تسمع قول الله تعالى:﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾(الحج:41) هذا هو التحصين، أيها المسلم الصادق الأمين، المخلص دينه لرب العالمين.