قضايا و آراء

الحرية أسمى المعاني وأغلى الأمنيات/ الدكتور إبراهيم نويري

الحرية قيمة إنسانية جليلة القدر، عالية المنزلة، تهفو لها كلُّ روح كريمة، وتتطلّع للظفر بها كلُّ نفس زكية، والحرية إضافة لذلك كلمة سحرية محبّبة لكل ضمير طاهر، بل كلمة مقدسة في أيّ مخيال جمعي.. إذ لا يوجد شعبٌ على وجه هذه البسيطة إلاّ وناضل من أجلها، وقدّم في سبيلها أعزّ ما يملك؛ ولا يوجد كائنٌ من الكائنات إلاّ وتراه يجاهد بشتى السبل ومختلف الوسائل من أجل أن ينال حريته، سواء أكان بشراً أم أيّا من مخلوقات الله عزّ وجل، فها نحن نرى الطير لا يكفّ عن الاصطدام بحواجز وأسلاك القفص الذي قيّدْنا حريته بها، محاولاً إيجاد مخرج أو كوّة صغيرة تمكنّه من الانفلات؛ وها هو الأسد لا يكفّ هو الآخر عن الزئير عند احتجازه معلناً غضبه وسخطه بعنفوان ظاهر.. وها هي القطة تُبرز مخالبها استعداداً للمعركة عند اعتراض بني البشر أو غيرهم  لطريقها؛ وها هو الإنسان أكرم المخلوقات يقدّم روحه من أجل أن ينال حريته…فالحرية أسمى المعاني وأغلى الأمنيات وأثمن المكاسب، وهي بكلمة واحدة غاية يستعذب كلُّ مَن في الحياة ـ الإنسان والحيوان على السواء ـ شتى أنواع العذاب والإرهاق للحصول عليها، ذلك أنه لا طعم للحياة من دون هذه الحرية..فهي بحق كما وُصفت أعظمُ تاج تتحلى الإنسانية وتفتخر بارتدائه والتدثّر بإهابه!!

لقد وُفّق التوفيق كله، وصدق الصدق كله، الكاتب الكبير والأديب المجيد مصطفى لطفي المنفلوطي رحمه الله، حينما تغنى بقيمة الحرية وهو يستشعر ويتمثل في نفسه الكريمة معانيها السامية..

فكتب يقول:” الحرية شمس يجب أن تشرق في كلّ نفس، فمن عاش محروماً منها عاش في ظلمة حالكة، يتصل أولها بظلمة الرحم، وآخرها بظلمة القبر، لأن الحرية هي الحياة، ولولاها لكانت حياة الإنسان أشبه بحياة اللُّعب المتحركة في أيدي الأطفال بحركة صناعية، فالحرية في تاريخ الإنسان ليست حادثاً جديداً، أو طارئأ غريباً، وإنما هي فطرته التي فُطر عليها عندما كان وحشاً يتسلق الصخور، ويتعلق بأغصان الأشجار”.

أجل سيدي..إنّ الأمر لكذلك حقا وصدقا..فالحرية من حيث الجوهر تُماثل تماماً صدى الفطرة ومعنى الحياة بدلالتها الإنسانية العميقة، حيث يشبُّ المرء من نعومته وهو يحس بأن كلّ ذرّة من كيانه تنشدها وتهفو إليها..وكما خُلقت العين للبصر، والأذن للسمع، وكما قُدّر لكلّ جارحة أو حاسة وظيفتها التي تُعتبر امتداداً لوجودها واعترافاً بعملها..كذلك خُلق الإنسان ليعزّ لا ليذل، وليكرّم لا ليهان، وليفكِّر بعقله، ويهوى بقلبه، ويسعى بقدمه، ويكدح بيده .. لا يشعر وهو يباشر ذلك كله بسلطان أعلى يتحكم في حركاته وسكناته، إلاّ ما كان مراعاة لله ولدينه وتعاليمه.

من أجل ذلك اعتبرَ الإسلام العقل مناط وأساس التكليف، والحرية العقلية ركناً في صحة العمل الإنساني ليستحق الجزاء المنظور ثواباً كان أم عقاباً، كما قَرَن بين سلامة العقل ومنطق الاعتقاد، فلا اعتناق لدين أو عقيدة أو فكرة في غياب العقل، ولا حديث عن تكليف في غياب القدرة على التمييز.

أما الجانب السياسي في الإسلام فيكاد ينفرد بالواقع التطبيقي العملي لعقائد الإسلام وأخلاقياته وتعاليمه، عبر مختلف القنوات والعلاقات التي أقرّها، سواء على مستوى المجتمع والدولة، أو على مستوى الارتباطات والمعاهدات والعلاقات العامة.

ذلك أن الإسلام دين الواقع، فهو يرفض الكهنوت لأنه يسوس الدنيا بالدين، ويردُّ رداً قاطعاً حاسماً مسألة الفصل بين الدين والحياة الموّارة المتحرّكة.. كما هو الأمر بالنسبة للتصور الذي تبنّته والتزمت به الكنيسة النصرانية عقب الهزيمة التي مُنيت بها جرّاء وقوفها الأرعن في وجه إبداعات العقل والفكر والحرية الإنسانية، فالإسلام قد أقرَّ ـ منذ البدء ـ مبدأ الحرية السياسية، وجعل التعبير السياسي دعامة أخرى مكمِّلة لإحساس المسلم بذاته وشخصيته ووجوده.

ويرى بعضُ مفكري الإسلام ومنظومته الفكرية، أن مفهوم الحرية بالمعنى السياسي لا يكتمل إلا بتجسيد مبدأ حق المشاركة وإبداء الرأي، فالمسلم أو المواطن عامة، إذا وجد نفسه في موقع اجتماعي معين، أو كان كاسباً للمؤهلات التي تمكّنه من أداء بعض الأدوار على مستوى المؤسسات والهيئات الرسمية، من حقه الانخراط  في الحياة العامة، ومن حقه التعبير بصراحة عن مرئياته وتصوراته، وما يدور في نفسه من آراء ووجهات نظر يراها مناسبة لنفع الوطن والأمة وتحقيق المصالح الجماعية العليا.. فله مثلاً أن ينخرط أو يؤسس الجمعيات والمنتديات ونحوها من الوسائل التي تحقق تلك الأغراض، ما دامت تلك المناشط مشروعة، ومتسقة مع تطلعات الأمة ومبادئ المجتمع.

إن الاعتراف بأصحاب الرأي المخالف أو المتباين يبدو للكثيرين وكأنه إنجازٌ خاص منسوب لديمقراطية الغرب!! وهذا غير مسلّم به ولا مقطوع بصحته ـ والتاريخ خير شاهد على ذلك ـ فعليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، لم يستبحْ مَنْ عارضوه، ولم يحشد الجموع لضربهم أو اجتثاثهم، وإنما قال لهم: ابقوا على رأيكم ما شئتم، فهذا حقكم! شرط أن لا تسفكوا دما ولا ترتكبوا جرائم في حق المجتمع. ولم يفكّر لحظة واحدة في كون الاعتراض على شخصه ـــ رغم منزلته ـــ هو من المنكرات أو الجرائر التي يجب أن يُتابع بسببها مَن جاهر بها في العلن وبين الملأ. فأين القذافي ومبارك وبن علي وبشار وعلي عبد الله صالح، رموز التجبّر والطغيان في هذا الزمان، من هذا الموقف الجليل المسؤول البصير ؟

 

حقاً لقد صدق جبران خليل جبران عندما قال:” يقولون لي إذا رأيتَ عبداً نائماً فلا توقظه، كي لا يحلم بالحرية..فقلتُ لهم: بل إذا رأيتم عبداً نائما فأيقظوه وحدّثوه عن الحرية “.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com