دراسات في السيرة النبوية/ خير الدين هني
أوضاعهم الاقتصادية:
تتميز الأرض العربية في شبه الجزيرة في عصر ما قبل النبوة، بأنها مختلفة في مناخها وتربتها وخصوبتها وتضاريسها وتدفق مياهها، وهذا التباين في الطبيعة المناخية هو الذي كان له الأثر البالغ في تكوين الحالة النفسية والعقلية لعرب ما قبل البعثة النبوية، وما ترتب على ذلك من مظاهر التخلف أو التقدم والازدهار والرقي، ذلك أن الإنتاج الفكري بإبداعاته المختلفة إنما يرتبط مباشرة بتأثير البيئة الجغرافية وما تحتويه من ثروات طبيعية، فيبرز أثرها بشكل جلي على تشكيل عقل الإنسان وتفكيره وسلوكه، وعاداته وتقاليده ونظم عيشه وتنقله واستقراره.
وفارق القوة الاقتصادية بين الجنوب والشمال، هو الذي ميز عرب الجنوب عن عرب الشمال، فعرب الجنوب أسسوا ممالك عظيمة ضربت بجذورها في التاريخ الطويل، وبنت حضارات شامخة، عبر ممالك المعينيين والسبئيين والحميرين. منذ 3200ق م. إلى البعثة النبوية، وقد استمدوا قوتهم من خصوبة المنطقة وثرائها. أما عرب الشمال أو الحجاز فكانوا يعيشون على الكفاف في أحسن الأحوال، وقليل منهم من كان ينعم بالثراء وسعة العيش، لانعدام الخصوبة وقلة المياه وجدب أراضيهم. ولما كانت التجارة من أهم الوسائل التي تنعش الاقتصاد، وتؤمن الاحتياجات المالية، وتنمي الحياة الاجتماعية، اهتم بها عرب الجنوب والشمال على حد سواء، وسعوا إلى ممارستها وتنظيم أسواقها، وتيسير سبل الوصول إليها داخليا وخارجيا؛ كيما تدرّ عليهم بالأرباح الوفيرة.
وقد انتعشت لذلك أيّما انتعاش، وزادها ازدهارا وقوع المنطقة في مكان مجمع القارات الثلاث الذي ميز جزيرة العرب؛ إذ أنها كانت نقطة عبور بين الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ فلقد كانت ملتقى لثلاثة معابر أساسية، وهي: المحيط الهندي، والبحر الأحمر، والبحر الأبيض المتوسط، المطل على منطقة الشام التي تقع شمال الجزيرة، وكانت هذه المعابر تتصل بالنقاط البرية في الشام، والعراق وإفريقيا الشرقية من طريق الصومال والحبشة.
وكانت العروض التجارية تشمل مختلف السلع والبضائع الرائجة في ذلك الزمان؛ مثل الذهب، والفضة، وبعض المعادن، والتوابل، والبخور، والعطور، والطيب، والحبوب والخمور، والمنتجات المختلفة. وكان لطبيعة الأراضي العربية وموقعها دور أساسي في اختيار البضائع التجارية التي تلائم المنطقة، فأهل الجنوب كانوا يشتهرون بتجارة البحار والمحيطات، وأهل الشمال كانوا يشتهرون بالتجارة البرية التي تعتمد على القوافل في نقل البضائع والسلع، وإلى جانب التجارة كانوا يهتمون بالزراعة؛ لأنها أساس كل رقي وتقدّم حضاري، وبما أنّ التجارة لا يمكن أن تفي بكل الاحتياجات، فقد اعتمد الكثير من الناس على فلاحة الأرض وسقيها، وعلى تربية المواشي والعناية بها، وبخاصة الإبل؛ فهي الحيوان المفضل لما يتمتع به من خصائص كثيرة، ولقد أكثروا من وصفه في أشعارهم وحكمهم، ما يدل على أهميته، وإلى جانب الأراضي الخصبة، فإنهم استصلحوا بعض الأراضي الواقعة في سفوح الجبال، واستعملوا في سقيها المحراث والحيوانات لجره، ولَمّا كان الماء هو عنصر الحياة، وشرط في أي استصلاح فلاحي فإنهم شقّوا القنوات، وحفروا الآبار، وبنوا السدود، مثل سد مأرب الشهير؛ لذلك انتعشت الحياة وساد الاستقرار في الجنوب، والشمال الأقصى.
أمّا أهل الوسط فكانوا يعتمدون على تربية الماشية والخيل، وعلى الزراعة في بعض الواحات، والكثير منهم كانوا بدوا رحّلا، لا يعرفون استقرارا ولا هدوءا، أمّا بخصوص الصناعة فإنها بلغت شوطا لا بأس بها في دول الجنوب، حيث اشتهرت المنطقة بالسيوف التي كانت تسمى السيوف اليمانية، وكذلك نبغوا في دباغة الجلود التي تمثل المادة الأولية في صناعة الألبسة العسكرية؛ مثل: الدروع وغيرها، وإلى المناذرة تنسب الصناعات النسيجية الشهيرة بتطريزها بالذهب والأحجار الكريمة.