ندوة الفنون في ضوء مقاصد الشريعة باسطنبول: حيثما دخل الفساد لابد أن يتعقبه الإصلاح/ أ.د. عبد الملك بومنجل
في العاشر والحادي عشر من شهر نوفمبر 2018 كان الموعد فنيا مقاصديا بالمدينة العالمية التي تضج بالنشاط العلمي والفكري والسياسي، علاوة على نشاطها السياحي: اسطنبول.
كان الموعد مع الندوة الدولية الثانية “الفنون في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية” التي سبق لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي الكائن مقرها بلندن أن نظمت عددها الأول منذ عامين، ثم رأت أن الموضوع من الأهمية بمكان، وأن مدارسة الموضوع ما تزال بحاجة إلى مزيد تعمق وتفصيل، وأن الأمر يحتاج إلى ندوة ثانية يُدعى إليها كبار علماء مقاصد الشريعة، ونخبة الباحثين في الفن والجمال بمنظور الرؤية الإسلامية، لتكون المعالجة أدقَّ وأعمقَ وأجدرَ أن ترسم معالِم الطريق إلى تفعيل أثر الفنون في الحياة المعاصرة للأمة، حيث التحديات صعبة وجمّة، وحيث يستثمَر الفن في طريق الهدم أكثر مما يستثمَر في طريق البناء، وحيث تُوظِّف القوى المهيمنة الفن في طريق المزيد من الهيمنة، ونحن نتجادل عن مدى جواز هذا اللون من الفن أو ذلك !
كانت مراحل الإعداد لهذه الندوة تتسم بقدر كبير من الجدية والانضباط والصرامة العلمية. أُعلمنا منذ البداية بأن الآجال ينبغي أن تُحترم بدقة، وأن معايير الموافقة على البحوث هي معايير علمية صارمة تخضع لها البحوث جميعها، وسُلمت لنا تلك المعايير مفصلةً ودقيقة أهمُّها الجدّة والإضافة والتميّز.. وكنتُ أشعر بالسرور وأنا أتابع هذا الحرص على الالتزام بروح العلم انضباطا ودقة، واجتهادا ومنهجا؛ فقد شهدنا مؤتمرات وندوات كثيرة تعقد في عالمنا العربي بمنتهى التسيّب والارتجال وانعدام الموضوعية في اختيار البحوث والجدية في تصور الأهداف وضبط المعايير وإدارة الجلسات.
حضر الندوة ثلة من كبار علماء الأمة من أهل الدراية في علم مقاصد الشريعة على رأسهم الرئيس الجديد للاتحاد العالمي للعلماء المسلمين الدكتور أحمد الريسوني، ونائبه الدكتور عصام البشير، والداعية المعروف المرموق الدكتور محمد راتب النابلسي، والمفكر السياسي اللامع الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، والعالم والوزير التركي السابق الدكتور محمد غورماز، والمفكر التونسي عبد المجيد النجار، وثلة لامعة من أهل الفكر والفن والدعوة والإعلام نجحت بهم الندوة أيما نجاح، وأثمرت من الأفكار والرؤى والاتجاهات والتوصيات ثمارا سيكون لها ما بعدها بإذن الله. وقد سمعتُ من منظمي الندوة ما يفيد أنها فاقت الندوة الأولى أشواطا في قيمتها وتحقيق أهدافها، لأنها توغّلت في دراسة إشكالية الفنون وتحديات استثمارها في إشاعة القيم الحضارية ولم تقتصر على ملامسة الموضوع من زاوية المقاصد الشرعية، ولأن بعض الذين حضروها كانوا من أهل الاختصاص في الفنون تنظيرا وتطبيقا.
عالجت الندوة الممتدة على مدار يومين جملة قضايا تتصل بالتصور الإسلامي للفنون من حيث هي مهارات جمالية ذات قدرة على إثارة الوجدان، وبمصطلح الفن الإسلامي ومدى دقته إطلاقا وتقييدا، وبواقع الفن وخطره في ظل تجادل الفقهاء المسلمين في جواز بعض ألوانه أو حرمتها والغفلة عن توظيفه لخدمة المصالح الكبرى للأمة. وكانت خلاصة هذه الندوة أن المسلمين ينبغي أن يتميزوا بفلسفة خاصة في التنظير للفن والجمال قوامها المزج بين عناصر الجمال ومصادره وألوانه على نحو يتكامل فيه الشكل والمضمون، وتتسع فيه دائرة الجمال لتشمل الحق والخير، ويتميز فيه الفن الإسلامي بخصائصه الروحية المعبرة عن جوهر الحضارة الإسلامية. وأن الجمال والفن يقعان من مراتب المقاصد الشرعية في التحسينيات أحيانا والحاجيات أحيانا والضروريات أحيانا أخرى، لاسيما حين يتعلق الأمر بحاجة الأمة إلى رقي في الذوق وجمال في المنظر العام والتزام للقيم الجمالية ذات الصبغة العقلية والأخلاقية، ترقيةً لحظها من القيم الإنسانية وتحسينا لصورتها أمام الأمم. وقد طالب بعض المتدخلين تعقيبا على المحاضرات بالخروج من عالم التنظير إلى عالم الواقع، لمعالجة المشكلات الفنية ذات الوزن الثقيل من قبيل الموقف من الموسيقى والغناء والسينما حيث تمثل هذه الفنون مصدر الخطر الأكبر إيجابا وسلبا لحجم انتشارها وتأثيرها في النفوس.
وقد كان الجو العام الذي خيّم على الندوة هو جو التقدير للفنون على اختلاف أنواعها، والانفتاح عليها والتشجيع على استثمارها في خدمة مصالح الأمة، والتوجيه بعدم المبالغة في تقييدها بفتاوى تغلّب درء المفاسد على جلب المصالح؛ فقد تكون المفسدة هيّنة جدا مقارنة بالمصالح التي يمكن أن تستجلب بفضل الفنون (وقد أشار بعضهم خلال المناقشات الجانبية إلى الأثر العظيم الذي خلفه العمل السينمائي التركي الكبير “قيامة أرطغرل” في استنهاض الهمم وإحياء الأهداف الحضارية للأمة).
ولعل أدلّ شيء على هذه الروح ما ورد في الكلمة الختامية للدكتور أحمد الريسوني رئيس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين من أن الإصلاح ينبغي أن يتعقب الفساد من حيث دخل، وأن أكثر ما دخل الأمة من الفساد إنما هو من الفن، وأن الفن ليس حياديا ولا بريئا بل هو مجند في خدمة الأهداف الثقافية والفكرية والسياسية لأصحابه؛ فلا مناص من استثماره في الإصلاح حيث استثمره غيرنا في الإفساد. وكانت أهم توصيات الندوة أن ينزل النقاش في الموضوع من التنظير والتطبيق، وأن يُدعى لهذا النقاش المبدعون والمختصون في الفن أنفسهم ليعرضوا تجاربهم ويكون من الفقهاء وعلماء المقاصد التسديد والتوجيه لا غير. وأحسب أن هذه الخطوة في غاية الأهمية، لحاجة الأمة إلى استثمار طاقات أبنائها البررة، وفنانيها المهَرة، ومواهبها المتفجرة، في ترسيخ قيم الجمال السامي، والتصدي لموجات المسخ والفسخ والتردي فكرا وخلقا وذوقا.. وعسى أن يكون لهذه الندوة الثانية أخت لها ثالثة تحقق هذه الأهداف.