حوار

“البصائر” تحاور الأستاذ الدكتور الربعي بن سلامة :حاوره حسن خليفة

 

في سياق الحوارات الكبرى التي تقوم بها  “البصائر”  في مقاربات تعريفية معرفية ـ علمية مع الكفاءات الجزائرية، في مختلف حقول المعرفة، كان حوارنا لهذا الأسبوع مع الأستاذ الدكتور الربعي بن سلامة، وقد تنوّع الحديث واتسع…بقدر اتساع اهتمامات الأستاذ ابن سلامة …إلى الحوار

****

 

ــ كأستاذ جامعي مارست التدريس الجامعي على مدار عقودكيف تنظر إلى حاضر ومستقبل التعليم العالي في بلدنا؟ 

* يبدو لي أن حاضر التعليم العالي في بلدنا ـ كحاضر التعليم العالي في معظم بلدان العالم الثالث؛ التي لا تخطط لتعليمها انطلاقا من واقعها، وإنما تخطط له وهي تنظر إلى العالم المتقدم من حولها، معتقدة أن ما ينجح من برامج ومناهج في الغرب يمكن أن ينجح عندنا، ولذلك تأتي مخططاتها أقرب إلى المثالية منها إلى الواقعية، فحاضر التعليم عندنا لا يزال يبحث عن طريقه، ولذلك فهو لا يكاد يستقر على حال، وإن كان قد بدأ في السنوات الأخيرة يحاول أن يتكيف مع محيطه الاجتماعي والاقتصادي، ونأمل أن ينجح واضعو البرامج في الاهتداء ـ قريبا ـ إلى كيفية تمكنهم من وضع البرامج التي تنطلق من واقعنا وتساير، في الوقت نفسه، ما وصل إليه العالم المتطور من إنجازات.

أما مستقبل التعليم العالي عندنا، فهو متوقف على ما نزرعه اليوم، ويبدو لي أننا قد بدأنا مؤخرا في التعرف على طريقنا، وشرعنا في وضع المعالم الصحيحة للانطلاقة الموفقة نحو مستقبل أفضل، وما حيوية إعادة النظر في البرامج، وتعدد لقاءات مسؤولي التخصصات والشعب والميادين إلا دليل على هذه الحيوية؛ التي نأمل أن تنجح في الاهتداء إلى برامج تنطلق من واقعنا، وأقصد بكلمة (واقعنا) كل ما تحمله هذه الكلمة من أبعاد تشمل هويتنا وخصوصية انتمائنا الحضاري، كما تشمل واقعنا المعيش بإمكاناته المادية وخصائصه الاجتماعية؛ التي يجب أن تكون ـ في هذه المرحلة ـ أكثر استعدادا للتفتح على العالم الخارجي لتستفيد في الوقت نفسه مما وصل إليه غيرنا في برامجهم الناجحة من إنجازات، وبمجرد أن نهتدي ـ في برامجنا ـ إلى التوفيق بين طرفي هذه المعادلة (الجمع بين المحلية والعالمية) يكون تعليمنا قد شرع في عملية الإقلاع بالمجتمع نحو مستقبل واعد في جميع مناحي الحياة، إن شاء الله.

 

ــ كيف تفسر هذاالتغييرالمستمر في المناهج والمقاييس في التعليم العالي؟ وهل يمكن ربط ذلك بالمستوى الذي يتفق أغلب الأساتذة على أنهيتدنىباستمرار؟

* لا نستطيع ـ في تقديري ـ أن نربط بين التغيير المستمر في المناهج وتدني المستوى، لأن هذا لا يؤدي بالضرورة إلى ذاك؛ فالتغيير المستمر في المناهج راجع إلى محاولة التكيف مع ما يجري في العالم الغربي من تطور متسارع، كما أصبح راجعا ـ في المدة الأخيرة ـ إلى محاولة أخذ واقعنا الاجتماعي والاقتصادي بعين الاعتبار، وهو واقع يتغير بسرعة أيضا، وإن كانت لا تبدو واضحة للبعض.

أما تدني المستوى فهو يرجع ـ في تقديري ـ إلى أسباب أخرى، قد يأتي على رأسها الضعف الموروث عن مراحل التعليم السابقة؛ فحلقات التعليم مرتبط بعضها ببعض ويتأثر بعضها ببعض أيضا. وقد يكون من أهم الأسباب عدم تطابق إمكاناتنا مع طموحاتنا؛ فطموحاتنا على المستويين؛ الفردي والاجتماعي، أكبر من إمكاناتنا، وهذا يرجع إلى فلسفة التعليم المعتمدة في الجزائر، وفي العديد من بلدان العالم الثالث، فديمقراطية التعليم ومجانيته في جميع المراحل تجعل الجميع يطمح إلى ما هو أعلى، بل قد يفتح أمام الكثيرين أبواب طموحات خيالية، وهذا واضح في حرص معظم الجزائريين على أن يلتحق أبناؤهم بالجامعة، كما هو واضح في عزوفهم عن الالتحاق بمعاهد ومراكز التكوين المهني، حتى أصبح العثور على طبيب أو صيدلي أو مهندس، في مختلف التخصصات، أيسر من العثور على بناء أو سباك، أو تقني في الفلاحة، أو الرَّعْيِ أو أي حرفة أخرى. وبسبب فتح فرص التكوين في الجامعة أمام كل حملة البكالوريا ـ بغض النظر عن معدلاتهم ـ يكون من الطبيعي أن تتزايد أعداد الطلبة وتصبح أكثر من طاقة الجامعة؛ التي تصبح مهمتها منحصرة في التكوين الكمي؛ الذي غالبا ما يكون على حساب التكوين النوعي، وبذلك تفقد الأمة فرصها في الاستفادة من نخبتها؛ التي يضيع تميزها في خضم العناية بالتكوين الكمي.

فلو نظرنا إلى نظام (ل.م.د) مثلا نجد أن تطبيقه عند غيرنا يحقق النتائج المرجوة منه، ولكنه لم يستطع تحقيق النتائج نفسها عندنا، وهذا ما جعل البعض يتهمه بالتسبب في تدني المستوى، ولكن الحقيقة هي أن السبب في تدني المستوى لا يرجع إلى النظام وإنما يعود إلى الكيفية التي طبق بها؛ إذ تقوم فلسفته على الاستغناء عن طريقة تلقين المعلومات، وتكتفي بمساعدة الطالب للاعتماد على نفسه في الوصول إلى المعلومة، وتعليمه كيف يعتمد على نفسه في الاستفادة منها أيضا.وقد أصبح هذا ممكنا بفضل تطور وسائط التكوين وتعدد طرق الوصول إلى المعلومة بسرعة أكبر من ذي قبل مما مكن من تقليص مدة التكوين، وربح الكثير من الوقت، وتوفير الكثير من الأموال أيضا، غير أن نجاح هذا التصور مرهون بظروف مادية معينة، ومنها ألا يتجاوز عدد الطلبة في الفوج الواحد عشرين (20) طالبا حتى يستطيع الأستاذ توجيههم ومتابعتهم، ولكن معدل الأفواج عندنا (في تخصصات العلوم الإنسانية) يتراوح بين أربعين وخمسين طالبا في الفوج الواحد، ولا شك أن هذا الضغط الكمي يتسبب في الحد من فعالية هذا النظام، ويسهم في تدني المستوى.

وإن كان تدني المستوى قد بدأ قبل مرحلة التعليم العالي، لأن حلقات المنظومة التعليمية  ـ كما قلنا ـ مترابطة فيما بينها، منذ المرحلة الابتدائية إلى التخرج من الجامعة، فإذا كان التكوين في المرحلة الابتدائية ضعيفا، فإنه سيكون في المرحلة المتوسطة ضعيفا، وقد يصبح أكثر ضعفا في المرحلة الثانوية،خاصة إذا لم يوجه الطلبة إلى الاختصاص المناسب لمواهبهم، وهو ما يحدث في كثير من الأحيان، بسبب حرص الآباء على توجيه أبنائهم نحو تخصصات قد لا يكونون مؤهلين لمتابعة دروسها، وهكذا يصل الكثير منهم إلى الجامعة وهم يحملون ضعفا لا يؤهلهم لمتابعة دروسهم في التخصص المطلوب، وحتى لو استطاعوا متابعة دروسهم فإن نتائجهم ستكون هزيلة، إلا بالنسبة للقليل من المتميزين الذين أُحْسِنَ توجيههم، وأحسنوا اختيار التخصص المناسب لمؤهلاتهم، وهؤلاء هم النخبة المعول عليها في كل التخصصات، وهم الأمل في الخروج بمنظومة التعليم العالي إلى بر الأمان.

ولتحسين مستوى النخبة ورفع عدد أفرادها، يجب أن يكون إصلاح التعليم على كل المستويات؛ بحيث يبدأ الفرز والتوجيه من مرحلة التعليم المتوسط، فيوجه ذوو المهارات والكفاءات المهنية إلى التكوين المهني؛ لأن المجتمع مثلما يحتاج إلى الأطباء والصيادلة والمهندسين، فهو يحتاج إلى مهارة المهنيين، وقد تكون حاجته إليهم أكثر من حاجته إلى غيرهم في مراحل معينة ــ كحاجته إلى كل تخصصات أشغال البناء في الوقت الراهن ــ وقد يكون من الضروري أن تقع عملية فرز أخرى بعد المرحلة الثانوية، لتلبي حاجات المجتمع في المجالات التقنية؛ التي لا تقل أهمية عن حاجاته إلى الأطباء والأساتذة والمهندسين، وغيرهم من ذوي التكوين العالي.

ولكي تتم كل هذه الإصلاحات بنجاح، على المجتمع أن يعيد النظر في قيمه المهنية، وأن يعيد تقييمه لكل وظائفه، بحيث تتغير الذهنيات الاجتماعية، ويعلم الجميع أن المجتمع يحتاج إلى جميع طاقاته، وهو لا يتطور إلا إذا استفاد منها جميعا، فنحن بحاجة إلى المهني العامل، والتقني العامل، وإلى الطبيب العامل، والمهندس العامل… أكثر من حاجتنا إلى مهندس بطال، أو صيدلي يضيع سنوات من عمره في البحث عن محل قد لا يجده، أو متخرج من الجامعة في أي تخصص بدون عمل.

 

ــ في مؤلفاتك العديدة يلحظ المتتبع اهتمامك بالمنهج والمنهجية.. وقد ألفت كتابا ـ على الأقل ـ في الموضوع، هل لديك تفسير للضعف المتناهي لطلاب الجامعات في هذا المحورالمنهج ـ والمنهجيةمن الليسانس إلى الماستر إلى الدكتوراه..؟ وما هي أسباب هذا الضعف في رأيك؟

* هذا السؤال مركب، والإحاطة به ليست ميسورة في كل الحالات، ولذلك فإنني سأحاول الإجابة عن بعض مفاصله، دون الإحاطة بكل حيثياته.

إذا توقفنا عند موضوع “المنهج والمنهجية” الذي يدرسه الطلبة في مرحلة الليسانس، ويحاولون التمرس على استخدامه في مرحلة الماستر، ويفترض أن يكونوا قد تحكموا فيه تحكما تاما قبل الشروع في تحرير أطروحة الدكتوراه، فإننا نجد الواقع يأتي ـ غالبا ـ على غير ما هو متوقع، حيث نراهم في أطروحة الدكتوراه وهم يكررون الأخطاء نفسها التي وقعوا فيها في مذكرة الماستر. ويبدو لي أن السبب في هذا الإخفاق يعود إلى عاملين مهمين، يمكن تلخيصهما في ما يلي:

1 ـ العامل الأول ويتجسد في طبيعة الموضوع نفسه؛ فهو يبدو للجميع سهلا، واضحا، بحيث لا يحتاج إلى كثير من العناية، ولذلك لا يتعامل الطلبة الباحثون مع موضوع المنهج والمنهجية بما يقتضيه من العزم والحزم، بل يرى الكثير منهم أن موضوع “المنهجية” سهل وميسور ولا يحتاج إلى الكثير من عنايتهم، فهو مجموعة قواعد استوعبوها وحفظوها منذ سنوات، وما عليهم إلا أن يطبقوها كما هي، دون أي اجتهاد. أما “المنهج” في تقديرهم فإنه لا يعدو أن يكون ذلك التصور المنطقي العام الذي يجب عليهم أن يلتزموا به أثناء وضع مخططات أبحاثهم، أو توزيع مادتها على الفصول بحيث يخدم السابق منها اللاحق، وأن يلتزموا به أيضا أثناء معالجتهم للنصوص المدروسة، وحتى إن لم يستوعبوه كما ينبغي فإنه بإمكانهم أن يتستروا خلف بعض المصطلحات الفضفاضة التي يصعب تحديد مدلولاتها، كالزعم بأن الباحث اعتمد منهجا تكامليا لأن طبيعة موضوعه تقتضي ذلك، أو أنه اعتمد عدة مناهج، ليعدد زوايا النظر إلى موضوعه، حتى يحيط به من كل الجهات، وهكذا…

ولذلك يمكن القول: إن موضوع (المنهج والمنهجية) ـ على أهميته ـ غالبا ما يقع ضحية سهولته الظاهرية؛ التي تغري الباحثين بالتخلي عن جديتهم في التعامل مع هذه القاعدة الأساسية من قواعد البحث الأكاديمي، إذ لا يتصور بحث علمي دون منهج، ومقولة (ديكارت) في هذا مشهورة، ويعرفها كل الباحثين خير للمرء أن يكف نهائيا عن طلب الحقيقة من أن يحاول ذلك من غير منهج“.

2 ـ أما العامل الثاني في ضعف هذا الجانب فهو يرجع ـ في تقديري ـ إلى تسامح الأساتذة وتساهلهم في المسائل المنهجية، بدعوى أنها مسائل شكلية لا يجب أن تؤثر على علامة الطالب، أو على الأقل لا يجب أن يكون تأثيرها حاسما على نتيجة الطالب، وهذا بخلاف المعمول به في الجامعات الأجنبية العريقة (كالجامعات البريطانية)؛ التي يعمد بعضها إلى إحالة موضوع الباحث على خبير مختص في دراسة الجوانب المنهجية الشكلية، ولا يحال البحث على الخبراء المختصين في الموضوع إلا إذا كان مستوفيا للشروط الشكلية التي تضفي عليه الصفة الأكاديمية.

وللتغلب على هذه المعضلة والتخلص، أو ـ على الأقل ـ التخفيف من سلبياتها، يستحسن أن نحذر الطلبة الباحثين من السهولة الظاهرية لهذه المسألة، وأن ننبههم ـ باستمرار ـ إلى وجوب العناية الفائقة بالمسائل المنهجية، كما يستحسن ألا نتساهل معهم فيما يرتكبونه من أخطاء وهفوات، بل يجب أن يعلموا أن تهاونهم في هذا الجانب سيؤثر سلبا على نتائجهم، وقد يؤدي إلى رفض أعمالهم.

– البحث العلمي كما هو جار في مؤسساتنا العلمية ..هل يحقق المطلوب في إنتاج المعرفة والفكر؟ وما تقييمكم للمخابر والمراكز البحثية في مختلف مؤسساتنا العالية عامة؟

* موضوع البحث العلمي والمخابر والمراكز البحثية في مختلف الحقول، موضوع واسع ومتشعب، وإذا حاولنا تقييم ما تنتجه كل هذه المؤسسات من معرفة وفكر فإننا نحتاج إلى كثير من المعطيات، وحيث أنني لا أملك عن هذه المؤسسات من المعلومات ما يمكنني من التعليق عليها أو تقييمها بموضوعية ـ خاصة حينما يتعلق الأمر بمخابر العلوم البحتة أو الدقيقة ـفإنني سأكتفي بما نسمعه، من حين لآخر، من أن المخبر الفلاني أو الباحث الفلاني قد توصل إلى اكتشاف ما، أو سجل براءة اختراع في موضوع ما، أو حصل على جائزة بمناسبة اختراع ما، وهذا ـ لا شك ـ يعد قليلا إذا ما قورن بما نسمعه عن مؤسسات البحث في العالم؛ التي تبتكر كل يوم أو كل ساعة شيئا جديدا. ومع ذلك، فإن ما تنتجه مخابرنا وباحثونا يبشر بمستقبل واعد لهذه المخابر ولهؤلاء الباحثين.

وبناء على هذا يمكن القول: إنه على الرغم من أن مخابرنا ومؤسساتنا البحثية لا تزال بعيدة عن المرجو منها، من وجوب تزويد المجتمع والمؤسسات الاقتصادية بكل حاجاتها من الأبحاث التطبيقية، إلا أن ترتيب جامعاتنا ـ في مجال البحث ـ لا يبعث على اليأس، بل يشجع على التفاؤل، فنحن حين ننظر إلى جداول تصنيف الجامعات وترتيبها على المستوى العالمي والإقليمي نجد جامعاتنا في المراتب المتأخرة، إذا ما قارناها بجامعات العالم المتطور، ولكننا نجدها في المراتب المقبولة، حينما نضعها بجانب جامعات العالم الثالث وجامعات العالم العربي، وهذا الموقع المتوسط لا يجب أن يبعث فينا اليأس، وإنما يجب أن يدفعنا إلى التفاؤل والعمل بجد لتحسين مستوانا في الترتيب العالمي، ولم لا، الطموح إلى اللحاق بجامعات الدول المتطورة، وما ذلك على طموحات الجزائريين بعزيز.

ويختلف الأمر إذا تحدثنا عن مخابر العلوم الإنسانية وعن الباحثين فيها ـ خاصة مخابر اللغات والآداب ـ إذ تُنجز، في الغالب، كل المشاريع المسجلة في الآجال المحددة، وهذا ما هو واقع في ميدان الدراسات الأدبية واللغوية على الأقل، ولذلك فأنا متفائل بمستقبل البحث في مجال الدراسات الأدبية واللغوية، وأتوقع أن يحتل باحثونا في هذا الميدان مكانتهم المرموقة على المستوى العربي والعالمي أيضا.

 

ــ عنايتك بأدب الطفل في مطبوعاتك وما أصدرته من كتب في هذا الخصوص يدفعنا لسؤالك عن أدب الطفل في الجزائر.. كيف يمكن توصيفه؟

* نعم، لقد أتيحت لي الفرصة للعمل في أدب الطفل عدة سنوات، حينما كلفت بتدريس مقياس أدب الأطفال، وبالفعل استطعت أن أتعرف على بعض الجوانب من عالم الأطفال ومن أدبهم الشيِّق في الجزائر وفي العديد من بلدان العالم أيضا. وما يمكنني قوله عن أدب الطفل في الجزائر، هو أن الإبداع فيه غزير وفير؛ سواء تعلق الأمر بالقصيدة أو المسرحية أو القصة الموجهة للأطفال؛ فالشعراء والكتاب لم يقصروا في الاهتمام بالطفل الجزائري، ولكن جانب الدراسات النقدية التي تثمن هذا الإنتاج وتبرز قيمته، وتصنفه بحسب المراحل العمرية للأطفال، وتضعه أمام أعين المخرجين والمنتجين لا تزال بعيدة عن المطلوب، وهذا ــ لا شك ــ يؤثر سلبا على الوظيفة الاجتماعية لهذا الأدب، ويقلل من مردوديته، بل قد يؤدي إلى نتائج عكسية؛ فالأولياء حينما يذهبون إل المكتبات يقتنون لأطفالهم كتبا على أمل أن تحبب إليهم القراءة، وأن تدفعهم إلى حب الاكتشاف، ولكنهم ــ في الغالب ــ لا يفرقون بين ما يناسب طفل ما قبل المدرسة، وطفل السنة الأولى، وطفل السنة الرابعة أو السادسة، وقد يؤدي هذا الأمر إلى نتائج عكسية تُكرِّه الطفل في القراءة، وتقتل فيه رغبة الاكتشاف، وحب الاستطلاع، إذا فوجئ بكتاب لا يفهم لغته، أو وضعت أمامه قصة لا تناسب سنه، ولا تستفز خياله، ولهذا فمهمة الدراسات النقدية لأدب الأطفال تساعد أولياءهم  على مساعدة أبنائهم في اقتناء ما يناسب أعمارهم، كما تساعد المخرجين المسرحيين وصناع المسلسلات الخاصة بالأطفال على إنتاج ما يناسب مختلف شرائح الأطفال، بحيث يمتعهم ويعلمهم.

ونظرا لقلة هذه الدراسات الضرورية لمساعدة الأطفال على ما يقرؤون، وتوجيه أوليائهم إلى ما يقتنون، ومساعدة المخرجين والمنتجين على ما ينتقون، فإننا لا نكاد نجد شيئا من النشاطات التطبيقية، على مستوى المسرح أو السينما أو مسلسلات التلفزيون في ميدان أدب الطفل الجزائري، على الرغم من أهميته وضرورته لإعداد أجيال المستقبل، ولذلك نأمل أن ينتبه النقاد وينبهوا المخرجين والمنتجين على مستوى المسرح والسينما إلى أهمية هذا الجانب في حياة الطفل.

 

ــ سبق أن شاركت مع أساتذة أفاضل زملاء في مشروع بحث عن أعلام الجزائر وكتابها.. هل يمكن أن نعرف تفاصيل هذا المشروع وأين انتهى؟

* نعم، بالفعل كنت عضوا في مشروعين تناولا أدباء الجزائر؛ كان أولهما خاصا بالشعر والشعراء، وأنجز في إطار مشاريع(CNEPRU)  بعنوان: (موسوعة الشعر الجزائري)، وقد صدر في طبعتين عن دار الهدى، كانت أولاهما برعاية جامعة منتوري ـ قسنطينة، وصدرت(في مجلد واحد)سنة 2002م، واستمر فريق البحث في العمل إلى أن صدرت الطبعة الثانية عن دار الهدى أيضا ولكن برعاية وزارة الثقافة، بعد أن نقحت وزيد فيها (في مجلدين) سنة 2009م. ويبدو أنها قد نفدت من السوق، ولذلك فنحن بصدد إعداد طبعة ثالثة تكون أكثر استيفاء لشعراء الجزائر، وستكون (في ثلاثة مجلدات)على الأقل، وقد يطبع المجلد الثالث منفصلا.

أما المشروع الثاني، فهو خاص بالكتاب الروائيين، وهو الموسوم بــ: (المعجم الموسوعي للروائيين الجزائريين)، وقد أنجز سنة 2014م، في إطار البرنامج الوطني للبحث (P.N.R)، وكان محل متابعة من طرف (مركز البحث العلمي والتقني لتطوير اللغة العربية)، وقد ضم بين دفتيه تراجم لمعظم الروائيين الجزائريين الذين تمكنّا من الوصول إليهم، أو الاتصال بهم، ويستوي في ذلك الذين كتبوا بالعربية أو بالفرنسية، منذ ظهور أول رواية في تاريخ الأدب الجزائري إلى اليوم،ولا يزال هذا المعجم في صورته المخطوطة (المرقونة) ينتظر دوره للنشر، وهو ككل الأعمال الموسوعية يبقى مفتوحا لاستقبال ترجمات الروائيين الجزائريين؛ الذين لم يشملهم المجلد الأول، والذين سيظهرون في السنوات المقبلة، بمن فيهم الروائيون الذين يكتبون بالأمازيغية، إن شاء الله.

 

ــ ساحتنا الأكاديمية تعرف الكثير من الإشكالات التي لم تجد حلولها بعد، في مجال الأداء الأكاديمي، البحث العلمي، مستوى التعليم، طرائق التدريس، نظام الأل أم دي، المشكلات المهنية والبيداغوجية.. هل من تحليل لهذه المعضلات وبسط للحلول الممكنة في المستقبل؟

* يبدو لي أن هذه المشكلات المتعددة، المتنوعة، ليست جديدة ـ وإن كانت متجددة باستمرار ـ؛ فبعضها اجتماعي كالسكن، وبعضها بيداغوجي كتضخم عدد الطلبة في الأفواج، أو ضيق القاعات والمدرجات عن الاستيعاب، أو اختلاف طرق التدريس بين الأساتذة؛ كأن يعتمد بعضهم على طريقة المحاضرة التقليدية، فيلقي على طلبته عددا من الأسئلة يتذكرون من خلالها ما أنجزوه في الدرس السابق، أو يفتتح مباشرة بطرح أسئلة الدرس الجديد، ثم يشرع في الإجابة عنها بمفرده أو بإشراك طلبته، وهي كيفية يختلف بشأنها الأساتذة، لأن لكل شيخ طريقته كما يقال. ولكن التغلب على هذه المشكلات ممكن، لأنها ليست من النوع الذي يعوق عمل الأستاذ، فالأساتذة؛ الذين تعود معظمهم على إنجاز عمله في بيته، يستطيعون ـ كل بطريقته ـ أن يتجاوزوا هذه المنغصات، ويستطيعون أن يتكيفوا مع ما هو موجود؛ لأن الأستاذ عليه أن يؤدي واجبه في نظام (ل.م.د) ــ كما كان يؤديه قبل ذلك ــ مهما كان عدد طلبة الفوج كبيرا، ومهما كانت متابعة أعمالهم متعبة، إذ ليس بإمكانه أن يتخلى عن بعضهم، وعليه أن يجتهد في توجيههم والإشراف على أعمالهم حتى يتمكنوا من إنجاز مهامهم على الوجه المطلوب، وفي الوقت المناسب أيضا، وهذا ـ لاشك ـ يكلف الأساتذة جهودا إضافية، ويتطلب منهم تضحيات لصالح طلبتهم، ولكن شعورهم بالمسؤولية يذلل أمامهم الكثير من الصعاب، ويخفف عنهم الكثير من الأتعاب.

 

ــ لماذا يقل إنتاج الأستاذ الجامعي في الجزائر ويكثر خارجها، كما هو ملحوظ لدى الأساتذة الذين عملوا ودرسوا خارج الوطنكيف تفسر ذلك؟

* نعم، هذه الملاحظة صحيحة، فنحن نعرف الكثير من زملائنا ــ خاصة أولئك الذين توجهوا إلى جامعات الدول الخليجية، والذين كانوا هنا متوقفين عن الإنتاج، لدرجة أن تمضي على الواحد منهم سنوات دون أن يصدر له أي بحث أو كتاب حتى في مجال اختصاصه، ولكنهم وبمجرد أن ينتقلوا إلى إحدى الجامعات الخليجية أو الأوروبية يتجدد نشاطهم وتتعدد إصداراتهم بمعدلات مدهشة، وقد يصدر للواحد منهم كتاب في كل سنة، وربما أكثر.

ويبدو لي أن السبب في ذلك يعود إلى قلة الحوافز، وقلة دوافع المنافسة بين الأساتذة عندنا، إذ بمجرد أن يحصل الأستاذ عندنا على رتبة الأستاذية، ويصبح (أستاذا للتعليم العالي) تخمد لديه جذوة الطموح ويصاب بنوع من الكسل العلمي المزمن، ويستسلم لنوع من الاسترخاء المميت ببطء، ويكتفي بترديد دروسه القديمة على مسامع طلبته، وقليل هم أولئك الذين يستمرون في البحث والتأليف، أو يحاولون تنقيح دروسهم أو تجديدها، ومعظمهم لا يرى ضرورة لذلك.

وعلى العكس من هذا الركود، عندنا، نجد الجامعات الأخرى تجتهد في المحافظة على فعالية هيئات البحث والتدريس فيها؛ فتقدم لأساتذتها الكبار فرصا متعددة للترقيات؛ فالواحد منهم ـ بعد أن يحصل على رتبة أستاذ التعليم العالي ـ تفتح أمامه أبواب لترقيات أخرى، كأن يرتقي إلى رتبة أستاذ مبرز، أو بعدها إلى رتبة أستاذ كرسي، وإذا استوفى كل الرتب يمكن أن يرتقي إلى درجة (أستاذ زائر) أو (أستاذ موفد)؛ بحيث يُرْسَل إلى إحدى الجامعات الأجنبية للاشتراك في تكوين معين، لمدة شهر أو شهرين أو أكثر، وحين عودته يكلف بإلقاء محاضرة أو محاضرتين على دفعات التخصص الذي تابع تكوينه فيه، حتى تكون الجامعة وأساتذتها وطلبتها، دائما، على اتصال وعلم بما يجري في الجامعات الأخرى في العالم، ولا شك أن هذه الحوافز تدفع بالأساتذة إلى البحث، باستمرار،عن كل ما يحسن مستواهم العلمي، ويرتقي بمردودهم المادي، وهذا ما ينعكس إيجابيا على مردوديتهم في البحث والتأليف.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com