في رحاب الشريعة

أصول الخريطة العمرانية وجهة نظر في الاستشراف المستقبلي/ محمد مكركب

المقصود بالأصول هنا: القواعد والأسس التي يقوم عليها العمران، والمقصود بالعمران هنا ضرورات الحياة من الفلاحة والصناعة والمدن والطرق والمواصلات والمرافق من قلاع وجامعات، ومستشفيات، وسائر المنشآت. أي: كل مقتضيات الدولة، وقد علمتم أن المقصود بالدولة أربعة أركان وهي:

الركن الأول: الإقليم أي التراب الوطني. والركن الثاني: القوم الذين يعيشون على هذا الإقليم أي: الشعب. والركن الثالث: المؤسسات الاستراتيجية: كالمؤسسة التربوية التعليمية، والمالية، والعسكرية، والصناعية، والصحية، والقضائية، والشورية العلمائية. والركن الرابع: السلطة السياسية، التي تتفرع إلى أربع سلطات: سلطة الإمارة والنيابة العامة، سلطة حماية الشريعة والقيام بالقضاء، أي العدل. وسلطة التنفيذ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتسيير المؤسسات. وسلطة التخطيط والعمران.

الأصل الأول: الخريطة البيانية العامة: لرسم الطريق الواضح نحو المستقبل، بكل مقتضياته ووضوح الاحتمالات لكل مآلاته المتوقعة شمولا وتفصيلا. خريطة المناطق الفلاحية، والمناطق الصناعية، وطريقة التطوير والإضافات والتوسع والإصلاحات، خريطة المدن بالتدرج، ورسم المكان والمقاييس والمقادير، والطرق والمرافق الحدودية الأساسية القاعدية الكبرى. وتأصيل هذا الأصل بالآية الكريمة:﴿قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف:108] قال القرطبي رحمه الله في تفسير الآية:﴿قُلْ هذِهِ سَبِيلِي﴾ “قل يا محمد هذه طريقي وسنتي ومنهاجي، قاله ابن زيد. وقال الربيع: دعوتي، وقال: مقاتل: ديني، قال القرطبي: والمعنى واحد، أي الذي أنا عليه وأدعو إليه يؤدي إلى الجنة. (على منهاج القرآن).﴿عَلى بَصِيرَةٍ﴾ أي على يقين وحق، ومنه: فلان مستبصر بهذا”. والاستدلال بالآية أن الله تعالى ما ترك الأمة تعمل بالارتجال وما يمليه عليها فكرها، وإنما على منهاج شرعه الله سبحانه. قال الله تعالى:﴿ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾[الجاثية:18/19].

وقال عز وجل:﴿فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[هود:112].

الأصل الثاني: الميثاق الثابت لقانون عقود الملكية والعمل والمعاملات وما يشمل الأسس العامة للدولة: وهذا الأصل هام في الاقتصاد بين المواطنين أنفسهم، وبين المواطنين والأجانب. حتى يكون كل مالك ومتعاقد في شراكة أو بيع وشراء وغير ذلك أن يكون مطمئنا مستقبلا على أمواله وجهوده ومشاريعه وممتلكاته على أرض التراب الوطني. وأهم ما يؤصل هذا الأصل الثاني هو أن الله شرع شريعة للناس في القرآن وأمرهم بالثبات عليها إلى يوم القيامة وعلى أساس هذه الشريعة يحاسب الناس. من اتبع شريعة القرآن سَعِد ومن أعرض عنها شقي:﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى﴾[طه:123/124]. كل الأحكام هي، هي، ثابتة واضحة إلى يوم القيامة.

الأصل الثالث: العمل بالدينار الذهبي الشرعي، بحيث تكون النقود المتعامل بها مطابقة لقيمة الذهب حسابيا تقديريا، أو يكون جسم العملة نفسه ذهبا كما هو الأصل، هذا وإن العمل بالدينار الذهبي الشرعي قوة اقتصادية أساسية، وعامل ضامن للحماية من التضخم، والحماية من التبذير الفردي والمجتمعي، وضروري ومسهل للزكاة والحسابات الشرعية. لقد تعبت البشرية ومنها الشعوب الإسلامية من المعاناة التي يتعرض لها الناس في مجال المال والصرف بين البنوك والبورصة والأسواق الدولية والديون. والذي يحل المشكل خاصة بين الشعوب العربية مع بعضها هو الدينار الذهبي، أو العملة بقيمة الدينار الذهبي. حيث يصعب على كثير من الناس بل على كثير من العلماء في باب الربا فهم مدلول الآية:﴿فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾[البقرة:279] ورغم وضوح الآية، ولكن في غياب التعامل بالدينار الذهبي الشرعي لم يدرك بعضهم المعنى من قول الله تعالى:﴿لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ مع سياق كل الآيات في الموضوع..وقد وعدت محاوري بمقال خاص بضرورة التعامل المالي بالدينار الذهبي، نخصص له مقالا كاملا إن شاء الله تعالى.

الأصل الرابع: التعليم العلمي الهادف، التلازمي بين النظري والتدريبي المباشر. ومعنى التعليم التعليمي: التعليم الفكري الإبداعي التثقيفي تعليم أساليب التعامل مع متطلبات الحياة مباشرة، والتعليم التقليدي هو التعليم المعلوماتي، الذي يكتفي فيه المعلم بتلقين المتعلم معلومات أو وحدات معرفية، دون أن يحسن توظيفها، في الواقع، ولذلك يقل الاختراع وينعدم التقدم التقني في البلدان ذات التعليم المعلوماتي التقليدي، تقتضي النهضة التي تعقد عليها الآمال للخروج من التخلف، أن تكيف المناهج التربوية التعليمية لتتناسب مع المبادرات الميدانية العملية على أرض الواقع، وذلك بأن يشرع الطالب من الثانية ثانوي بالدخول في التخصص النهائي بالتدرج، ويكون العمل الدراسي بالتلازم بين النظري والتطبيقي في الميدان، بحيث يصبح الطالب يدرس ليفقه عملا يمارسه ميدانيا، حينها يصير مهتما هو بنفسه بأن يبحث ويسأل ويجتهد في حل مشاكل العمل، ويكون الأستاذ مرشدا وموجها يقوده نحو التجديد والابتكار والتطوير والإبداع. هذا في التخصصات الفلاحية والصناعية والإدارية، والإعلامية، والحرفية، وغيرها مما يتطلب التدريب المبكر.

الأصل الخامس: العمران المدني الحضاري هندسيا واجتماعيا وأمنيا، فمن بين أكبر العوامل الإصلاحية النهضوية الاقتصادية: التنظيم الحكيم للمدن. بالإضافة إلى الناحية الجلالية والجمالية والسياحية والأمنية، ولعل الدراسات والبحوث التي قدمت في هذا الموضوع (العمران المدني الحضاري) أي بناء المدن، كثيرة، ولكن رغم كل ذلك مازال التأخر إن لم أقل التخلف ملحوظا في كثير من الجوانب العمرانية، بسلبيات تؤثر سلبا على مستقبل الأمة. وأنا الآن بصدد البحث في”أصول الخريطة العمرانية، ووجهة نظر في الاستشراف المستقبلي” لا يفوتني أن أقول بناء على منهج الصحابة في النقد البناء والملاحظة العلمية والنصح الخالص، كما قال الحباب بن المنذر رضي الله عنه يوم بدرا مشيرا إلى وضعية، رأي أن يعطي فيها رأيه بكل أدب. وبينا وجهة النظر الخاصة في بحث”الإحصاء والإعداد في علم الاقتصاد” ما فيه الكفاية. ونبقى دائما مع القرآن:﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى﴾[الأعلى:9].

الأصل السادس: شمولية استثمار المكان. أو قل حسن استغلال الأرض بواسطة خطة علمية اقتصادية مدروسة لكل شبر من التراب الوطني، ووفق الخريطة المبينة في الأصل الأول. ولما قلت في الأصل الخامس بأننا نريد التذكير فقط لأن هذه المسائل من البديهيات، وقدمت الآية القرآنية تذكيرا:﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى﴾ تذكيرا لمحاوري، وللقارئ الكريم، الذي لم يبخل علينا بالنصح والنقد والمؤازرة، ولمن يهمه الأمر للقيام بهذه الأصول. فعلى سبيل المثال جاء في الميثاق الوطني لعام 1976م ( إن التوزيع الدقيق للاستثمار عبر أنحاء البلاد يجب أن يتجسم من خلال استثمار موارد كل جهة…والاستخدام السليم للترب من أجل تطوير التنمية، وتأمين الحفاظ على الأراضي الزراعية، وهذا يستلزم على الخصوص رؤية متناسقة…كما يستلزم تصورا عقلانيا لتنظيم المراكز العمرانية، انطلاقا من تناول عصري لقضايا العمران)[ص:124] وفي الصفة (126) منه جاء فيه:(وترمي سياسة التوازن الجهوي إلى إقامة هيكل عمراني يوزع توزيعا منسقا على كافة مساحة البلاد، وذلك باستعمال مدروس لطاقة الإنسان، إذ الأمر يتعلق هنا بمضاعفة المجهودات الحضرية) ومعنى هذا أن الإجماع على أن تكون المدن والقرى متناسقة مع مساحة البلاد، وعدم الاعتداء على السهول الفلاحية، وهذا مدون في الوثائق الرسمية. حيث ورد في الصفحة (241) (تحديد المناطق المخصصة لأغراض غير فلاحية عبر الوطن، دون المساس بتنمية القطاعات الأخرى، وذلك بطريقة تحافظ على الأراضي الأكثر صلاحية للزراعة).

الأصل السابع: القصد في التعامل مع رزق الله عز وجل. وأهم ما يدرس في هذا الأصل: حفظ المال العام، والثروات الوطنية، وحسن التصرف فيها بأمانة وحساب دقيق. أكثر ما ينخر الاقتصاد من داخله هو الإسراف والتبذير الظاهر، عندما تنفق الملايير في غير موضعها ولغير غايتها، والتبذير المقنع عند تنفق الأموال في مشاريع غير استثمارية ولا هدفية ولا مدروسة، عندما يشق طريق لا يؤدي دوره الاقتصادي، أو يبني مصنعا للمستهلكات على حساب الصناعة الإنتاجية، أو تقام مدينة في غير موقعها تزيد الاكتظاظ في منطقة ولا تحل مشكل السكن. ثم إن أزمة المرور في الطرقات على سبيل المثال ليس بسبب ضيق الطريق، وإنما بسبب سوء تخطيطه، أو بسبب ما حُمِّل من التوسع العمراني بغير تخطيط، ثم قلة تنظيم السير فيه، ولسبب ما ذكرناه في الأصل الخامس أعلاه.

الأصل الثامن: تنظيم العمل البنكي العمراني. الذي يكون واسطة دراسة وتقويم وتنسيق بين كل المتعاملين وجهات أصحاب المشاريع الاقتصادية. ما أحوج الشعوب الإسلامية إلى إقامة البنوك العمرانية المسئولة، التي تقوم بتحريك عجلة الاقتصاد بالوسائل المشروعة، لبلوغ غايات النهضة الاقتصادية.

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com