دراسات في السيرة النبوية العرب قبل البعثة النبوية/ خير الدين هني
العرب أمة كغيرهم من الأمم القديمة التي نشأت في ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية بالغة الصعوبة، إلا أن نشأتهم في بيئة صحراوية قاسية وخالية من شروط الملاءمة الحضارية جعلتهم ينأون بأنفسهم في عالم متقوقع ومتحجر بني على صراع الأضداد والأفكار البغيضة التي زاد من تغذيتها دواعي الجاهلية بسفهها وطيشها ونزقها ومروقها عن جادة الحق، فكان أن تمزقت وحدتهم وضعفت شوكتهم، وذهبت ريحهم وأصبحوا كغثاء السيل لا تأثير لهم على مسرح الحياة ولا خير ولا نفع كان يرتجى منهم، فكانوا لا يُعبأ بهم ولا يحسب لهم حساب ولا تصطلى لهم نار عند الأمم التي كانت تحيط بهم، وقد أخذت هذه الأمم تنال منهم وتحط من مكانتهم وأقدارهم، وتأخذ من أطراف أراضيهم، فكانوا مستسلمين أذلاء تابعين لسلطانهم وهم بذلك خاضعون خانعون، إما عن طواعية ورضا وإما عن إجبار وكره، مثلما عليه حالنا اليوم.
فهم لم يكونوا يرون في حياتهم تلك ضيرا، ما دامت هذه الحياة كان فيها شيء من رضا وطمأنينة، وفيها شيء من نشاط وحيوية، وفيها شيء من يسر ورخاء، وفيها شيء من حركة تتيح لهم قدرا ولو يسيرا من الحياة الناعمة، وكثيرا من الحرية في الاستمتاع بضروب المتع والملذات وأصناف من الترف والمجون، وهي الصورة المنعكسة على أوضاعنا اليوم.
وقد كانوا سعداء بحياتهم الصاخبة المائعة الماجنة، فلم يكونوا يرون فيها ما يشين أو يعيب، أو ما يقدح أو يريب. وكانوا يسعدون أكثر حين يستعدون الأعداء على بعضهم البعض، وكم كانت تغمرهم الغبطة والفرحة والسرور حين ينكل الأعداء ببني عمومتهم في حرب أو غارة، مثلما كان يقع بين قبيلتي الأوس والخزرج بيثرب مع طوائف اليهود، وبين المناذرة بالحيرة الواقعين تحت النفوذ الفارسي، والغساسنة بالشام الذين كانوا تحت التاج البيزنطي.
لقد كانت حالهم يومئذ على نحو ما هي عليه حالنا اليوم، إذ أصبح الإخوة الأشقاء يتسابقون إلى أعداء الأمة فيتقربون إليهم بالحب والود والحبور، ويبذلون لهم العطاء من أجل استعدائهم على إخوانهم وأقاربهم وذوي النكاية منهم، لينالوا منهم بالوصف المقبوح والوسم المجروح والتضييق المفضوح.
فنحن اليوم رغم أننا أكداس من أعراق وهي مصدر قوة ورفعة لنا، ومع أننا في عصر الذرة والفضاء ولكننا مازلنا نعاني من حالة نفسية متأزمة – الشعور بالصغار والضعة والدونية- وهي ذات المشاعر التي كان يعاني منها عرب ما قبل البعثة النبوية، لذلك لم يتغير فينا اليوم شيء يمكن لحظه سوى ما ظهر من تطور عرفته حركة الزمن في المأكل والمشرب والملبس والمأوى ووسائل النقل. أما طريقة التفكير وأساليب العمل وأدوات الانتاج لدينا، فمازلنا كما كان عليه أسلافنا، نراوح درجات العتبات الأولى التي خلقنا عليها، ولم نتقدم ولو بقيد أنملة.
وهذه مأساة حقيقية تعبر عن مستوى عميق، لارتكاس (التوقف عن النمو) العقل العربي الذي استعصى على التنمية والتطور ومواكبة العصر والأمم الأخرى التي قطعت أشواطا كبيرة في النمو والرقي والازدهار (التنمية السياسية والثقافية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية) وهي ذات المظاهر التي ميزت عرب ما قبل البعثة النبوية.
فمازلنا نسير على خطاهم في تبليد العقول وتحجيرها، بتعظيم الذات البشرية العلية، بصور ممجوجة من ألفاظ التفخيم والتعظيم والتبجيل المزيفة التي تجاوزتها أحداث الزمن، لشؤمها وبلادتها وقتلها للضمير الأخلاقي، فكان أن تجمدت العقول وتحجرت النفوس وتعطلت طاقة التفكير فيها، وأصبحنا أمة فاقدة لرشدها تسير على غير هدى، ولذلك نحن نعيش اليوم جاهلية جديدة حبلى بالمشكلات، ومشحونة بالحقد والكراهية والبغضاء والكسل والخمول والجمود والغباء والبلادة.
وزاد من تفاقم الأمر أن ابتليت الأمة بدهاقن واعظين، قتلوا مشاعر اليقظة والإحساس في الضمير الجمعي للأمة، بإصدار مواعظ ناعمة منوِّمة ومثبطة للهمم وعزائم النهوض من عثرات التردي والسقوط، ومبلِّدة للعقول ومجمدة للقرائح وقاتلة للمواهب المبدعة. وقد تخلقت عقولهم على إيجاد وثنيات جديدة صنعوها وبأيديهم نحتوها، وجعلوها مثل النصب التي كان يعظمها عرب ما قبل البعثة النبوية.
أصل العرب ودورهم في الدعوة إلى الإسلام:
وعرب ما قبل البعثة النبوية الذين ناصبوا العداء للنبوة والإسلام، وأبوا أن يجتمعوا تحت راية واحدة شعارها “إنما المؤمنون إخوة” ما لبثوا أن اجتمعت كلمتهم وأصبحوا مؤمنين بكلمة الحق التي جاءهم بها نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، فلما آمنوا بقيم الفضيلة والمثل الإسلامية توحدوا بعد أن آمنوا بمثل أعلى جعلوه قدوتهم في الحياة، فحينها خرجوا من شرنقتهم التي ضيقت عليهم أفق الحياة الرحبة، وأخذوا ينشرون مبادئ الحق التي جاءتهم بها رسالة السماء، وما أسرع أن التفت بهم أمم الأرض وآمنت بما آمنوا به، واجتمعوا في أمة واحدة لا يفرق بينهم صخب ولا نصب، ولا عرق ولا عصب، فسادوا الدنيا من أقصاها إلى أدناها ودانت لهم الشعوب بالطاعة والولاء، وأصبحوا جماعة واحدة بعد أن كانوا أشتاتا أقتاتا متخاصمين وعلى العداء متحالفين.
يرجع هؤلاء العرب الذين شكلوا النواة الأولى في نشر الإسلام بين الناس إلى أصلين اثنين، انحدرا منهما، وهذان الأصلان ينتسبان إلى الشعوب السامية الضاربة في عمق التاريخ، وهما قومان اثنان:
1.العرب العاربة: ينحدرون من نسل يعرب بن قحطان الذي ينتهي نسبه إلى سام بن نوح عليه السلام، وقد استوطنوا اليمن قبل الإسكندر الأكبر بنحو 1700سنة، ويمثلون الأصل الذي يعود إليه عرب الجنوب.
- العرب المستعربة أو المستعجمة: من عدنان بن إسماعيل عليه السلام، يطلق عليهم المؤرخون عرب الشمال، لأنهم نشأوا وعاشوا بشمال بلاد العرب (تاريخ ابن خلدون، ص29)، فجدهم إسماعيل ليس عربيا والعرب تسمي ما ليس بعربي أعجميا. أما نسبهم من جهة أمهم فهي عربية من قبيلة جرهم العربية التي هاجرت من اليمن واستوطنت مكة وحكمتها دهورا طويلة، لذلك كان أبناؤه مستعربة لأن أمهم عربية وسكنوا بلاد العرب وتكلموا العربية، وتأثروا بثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم وموروثاتهم؛ “ومن هؤلاء الأقوام ينتسب الحجازيون والأنباط، والنجديون، ومن قبائلهم: بَكْر، وتَغْلِب، وربيعة، ومُضر، وذبيان، وقريش…”( في رحاب السيرة النبوية، ص38، ط/3 .لكاتب هذه السطور).
وما دمنا قد ذكرنا عرب الجاهلية، فلا بأس أن نشير بهذه المناسبة إلى العرب البائدة: وهم قوم آخرون انقرضت أخبارهم ولم يبق لهم ذكر، وينتهون إلى سام بن نوح عليه السلام، وينتسبون إلى قبائل سبع، هي: عاد كانوا يسكنون الأحقاف، بعث فيهم النبي هود عليه السلام، وثمود، كانوا يقيمون بالحجر بوادي القرى بالحجاز، وفيهم بعث النبي صالح عليه السلام، وجَدِيس وطَسْم، ومنهم أقوام سبغ، وجاسم، ووبار، كانوا يقيمون بالبحرين وعمان واليمامة ( تاريخ ابن خلدون، ص43).
وقبائل الحجاز بخاصة، وعلى رأسهم قبائل قريش وهوازن وسليم…وهي التي كانت تحاد الله ورسوله وأبت أن تجتمع تحت راية الإسلام، لأنهم مردوا على الكفر والجحود وعبادة النصب والأوثان وتقديس السادة وكبراء القوم منهم، وتندرج هذه القبائل تحت أصلين اثنين عرفا في تاريخ الفتوح بالعدنانية والقحطانية.
والذي يمكن تلخيصه من التجسيد الذي عرفته ملاحم السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، أن الأمة مهما كانت متشرذمة ومقطعة الأوصال بسبب التنافس والتنازع على المصالح الذاتية، يمكنها أن تتوحد وينقاد زمامها ضمن الجماعة إذا وجدت من يقوم بجمع كلمتها وترميم لحمتها، ويقودها نحو الأهداف النبيلة التي تدعو إليها الفكرة المقدسة، المرتبطة عضويا بالعلاقة الكونية ضمن تناغم أزلي قضت به حكمة السماء في تدوينات مقدرة بقدر جعلها تنقش نقشا في كتاب محفوظ لا تريم عنه بمحو أو غفلة أو نسيان..لأن إرادة السماء تقدر الأمور بحسابات مقدورة وموزونة، تجعل أحداث الزمن تجري في أعنة لا تحيد عما قدر لها.
وتقدير المشيئة العليا لحركة الزمن والأحداث الجارية فيها، إنما يناط بعلاقة الأسباب بمسبباتها كيما لا يقع سلب للحرية والإرادة اللتين هما أساس التكليف الشرعي في التمييز بين من يحوز الغلبة بين القوى المتصارعة في الذات الإنسانية، أعني بالصراع –هنا- صراع القوى المتضادة في كينونتها الداخلية ضمن ملاحم أبدية لا تعرف السكون أو الفتور…أي: صراع الخير والشر، والحق والباطل، والقوة والضعف، والنشاط والكسل، والخمول والحيوية، والجد والهزل، والثبات والاستسلام…إلخ.
وهذا التضاد هو الذي يشكل حلبة الصراع الأبدي بين البشر، وهو الذي ينشأ عنه المحور الأساس الذي تنتظم به حياة الناس، ولا سبيل إلى تغييره لأنه قدر قضت به إرادة السماء، ولا راد لحكم الله وهو غالب على أمره، ولكن كثيرا من الناس لا يعلمون.